تداعيات وعد بلفور على الساحة الروسية
بدات فلسطين تظهر على اجندة روسيا السوفييتية فور تسلم البلاشفة السلطة عام ١٩١٧ . فقد واجهوا بالنسبة لفلسطين مشكلتين كبيرتين مترابطتين ترابطا وثيقا ،. اما الاولى فكانت تدور حول موقف البلاشفة من احتلال البريطانيين وتبنيهم فكرة انشاء وطن قومي لليهود فيها . اما المشكلة الثانية فكانت تدور حول اثر وعد بلفور على اليهود الروس ووضع هذه الاقلية * القومية * ضمن سياق الايدولوجية اللينينية للمسالة اليهودية . اذ انه قدر لهذا الوعد ان يصبح عنصرا بالغ الاهمية في طموحات الهود الروس وتحفيزهم للهجرة الى فلسطين والانخراط في سلك المعارضة المكشوفة للنوايا البلشفية . وكان وعد بلفور قد صدر في الثاني من نوفمبر عام ١٩١٧ اثر مفاوضات جرت على قدم وساق بين الساسة البريطانيين وزعماء الحركة الصهيونية في الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية تقتحم الحدود الجنوبية لفلسطين تمهيدا لاحتلالها بالكامل . وقد تعهدت بريطانيا بموجب هذا الوعد بانشاء وطن قومي لليهود في فلسطين مما اظهر بكل صراحة ووضوح ودون مواربة عمق التقارب بين الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية من اجل خدمة مصالحهما واهدافهما المشتركة ( LIoyd George , The Truth about the Peace Treaties , p. 726 ) .
وقد اشار لويد جورج رىيس وزراء بريطانيا في مذكراته ان احد اهم الاسباب التي دفعته ضمن اسباب اخرى في تبني وعد بلفور يعود الى * حالة روسيا نفسها ... اذ اصبح الهود الروس يروجون للدعاية السلمية الالمانية في روسيا بهدف اخراج روسيا من الحرب وانهاء تحالفها مع الحلفاء والتوصل الى تسوية سياسية مع المانيا * . كما تولد الاعتقاد لدى البريطانيين - كما اشار لويد جورج في مذكراته -
بانه اذا ما اعلنت الحكومة البريطانية تاييدها والتزامها بتحقيق التطلعات الصهيونية في فلسطين ، فستكون احدى النتاىج المترتبة على ذلك اجتذاب اليهود الروس ووقوفهم الى جانب قضية الحلفاء (المصدر نفسه ) .
وكان الالمان من جانبهم يحاولون جاهدين التودد الى قادة الحركة الصهيونية وكسبهم الى جانبهم . وكانت الحكومة البريطانية من جانبها تدرك ان روسيا اذا ما تخلت عن حلفاىها فان هذا لا يعني المزيد من الطعام والمواد الخام لالمانيا ، بل يعني ايضا تقليص عدد القوات الالمانية على الجبهة الشمالية ومن ثم ارسال المزيد منها الى الغرب .
وطبقا لاقوال لويد جورج كان بلفور قد اكد على اهمية اصدار وعد يكون مقبولا لدى الصهاينة ، مشيرا الى ذلك بقوله : * ... فاذا استطعنا ان نعطي وعدا ملاىما ومقبولا لليهود، فسيكون في وسعنا ان نقوم بدعاية بالغة الفاىدة بين اليهود الروس ( The Jewish Chronicle , Feb. 15 , p.8 ) . وقد افضى تقرير اخر نشر عام ١٩١٨ مزيدا من الوضوح على هذه النقطة حيث ذكر ان
*الاثر الاجمالي لهذا الوعد في روسيا لا يستهان به وان لم يكن بالقدر الذي كان مامولا ... بل لعله كان من الممكن ان يتاثر مجرى الثورة لو ان الاعلان عن الوعد جاء في وقت مبكر اكثر * ( LIoyd George , p. 730 ) .
وقد كان بلفور كما اشار الى ذلك في مجالسه الخاصة ان فلسطين لم تكن كافية لايجاد وطن لا لليهود ولا لاي شعب اخر . الا ان الحكومة البريطانية كانت على قناعة بان اصدار هذا الوعد سيحفز الزعماء اليهود للقيام بدور فعال في التاثير على نشاط الحزب الشيوعي الروسي ، ومن ثم الحيلولة دون اي تقارب الماني روسي على المدى المنظور . وكان تروتسكي من جهته مؤيدا لهذا الراي ، اذ ادعى ان البلاشفة كانوا على علم بالنشاطات الانجلو-فرنسية الرامية الى دعم النشاطات والحركات القومية الانفصالية في روسيا ، وحسب رايه فان البريطانيين كانوا ياملون ان تودي هذه النشاطات ايضا الى عرقلة الاتصالات الجارية للتوصل الى سلام بين الروس والالمان، غير ان السذاجة كانت واضحة الى اولىك الذين تصوروا ان اليهود الروس يملكون دون غيرهم المفتاح السحري لانتصار البلاشفة بزعامة لينين او انتصار الليبراليين بزعامة كيرنسكي او بعبارة اخرى الانسحاب من الحرب او الاستمرار فيها .
لقد تصورت بريطانيا انها بإصدار وعد بلفور سيتحقق لها بالفعل مكاسب حقيقية على الصعيد الروسي . وان بإمكان اليهود الروس القيام بدور رئيسي في التأثير على الأحداث الداخلية في روسيا، اذ كان لويد جورج نفسه يعتقد ان غالبية اليهود الروس مندمجون تحت لواء الصهيونية وان بإمكانهم عرقلة المحاولات البلشفية للوصول الى الحكم . وقامت بريطانيا لدى إصدار وعد بلفور بنشره بمختلف اللغات التي كان يتحدث بها اليهود ، وقامت بتوزيعه باقصى سرعة على شتى التجمعات اليهودية في روسيا وأوروبا الشرقية ، حيث كانت الطائرات البريطانية تقوم باسقاط المنشورات المتضمنة نص الوعد على مراكز تجمعات اليهود . وسارع الزعماء الصهاينة بإرسال البرقيات الى زملائهم الموجودين في روسيا لبذل أقصى جهودهم من اجل خلق موقف يهودي موحد في تأييده ودعمه لبريطانيا . وكان من ضمن تلك البرقيات تلك التي ارسلها وايزمان الى احد الزعماء الصهاينة في روسيا قائلا : * لا تنس أبدا ان هناك التقاء بين مصالح بريطانيا ومصالحنا والذي كرمتنا به العناية الإلهية ... اننا في هذه اللحظات المصيرية نتوجه إليكم طالبين منكم بذل أقصى جهودكم وعمل كل ما باستطاعتكم القيام به في سبيل خدمة مصالحنا المشتركة ( Lenin , Vladimir , Selected Works , Vol I , p. 101 ) .
وقد رأى البلاشفة في وعد بلفور وفي الاحتلال البريطاني لفلسطين أمرين معاديين للاتحاد السوفييتي . كما اعتبر البلاشفة الوجود البريطاني فيفلسطين تهديدا مباشرا لهم مما دفعهم الى التنصل من جميع الاتفاقات السابقة التي كانت تضم كلًا من روسيا وبريطانيا وفرنسا ، وكان من أهمها معاهدة سايس بيكو عام ١٩١٦ ؛ والتي حصلت فيها بريطانيا على حصة تمتد من سوريا الجنوبية الى العراق ، في حين خصص لفرنسا منطقة الموصل اضافة الى سوريا ولبنان . أما روسيا فقد نالت منطقة الأناضول الشرقية التي كانت تجاور جزءا كبيرا من الحدود التركية الروسية . كما تم الاتفاق على إقامة نظام دولي خاص في الأراضي المقدسة ، الا انها سرعان ما أصبحت منطقة نزاع بين بريطانيا وفرنسا ، اذ كان الفرنسيون يضغطون للحصول على كامل فلسطين باعتبارها جزءا من سوريا الكبرى ، في حين كان الإنجليز يعارضون هذه الأطماع الفرنسية لاعتبارات كثيرة أهمها معارضتهم الشديدة لاي قوةً رئيسة تسعى لإنشاء منطقة نفوذ لها بجوار قناة السويس .
وفور تسلمهم السلطة في نوفمبر ١٩١٧ بدا البلاشفة بنشر النصوص الكاملة لهذه المعاهدة وخاصة ما
ما يتعلق منها بفلسطين والاتفاق على إخضاعها للسيطرة البريطانية تمهيدا لانشاء* الوطن القومي اليهودي * . وقد جاء هذا النشر لنصوص المعاهدة نتيجة تولد القناعة لدى السوفييت بان بريطانيا باتت تتبنى سياسة تستهدف عزل الاتحاد السوفييتي والحيلولة دون إقامة مناطق نفوذ له في الشرق الأوسط .كما تبين للسوفييت ان ان احتلال فلسطين كان جزءا من خطة بريطانية لتقسيم الدولة العثمانية والحد من النشاطات التوسعية الروسية . ولذا فان البلاشفة نظروا الى وعد بلفور على انه عمل عدائي قام به الإنجليز بهدف جعل الصهيونية احد فروع الثورة المضادة المتحالفة مع الإمبريالية والمعادية للاتحاد السوفييتي . وقد تاثر موقف البلاشفة من جراء صدور هذا الوعد ، اذ ادركوا أهمية مضامينه الموجهة لليهود الروس بهدف كسبهم الى جانب التحالف الصهيوني الامبريالي في وقت كان البلاشفة فيه مشغولين بالوضع الذي تلا الثورة ، اذ اندلعت المظاهرات في بتروغراد وأوديسة وغيرها من المدن الروسية الأخرى ، وظهرت النشرات اليهودية المؤيدة لبريطانيا في مختلف المدن الروسية والتي كانت تدعو الى معارضة نظام الحكم البلشفي ومقاومته .
لقد ادرك البلاشفة ان دعم اليهود الروس وتأييدهم لوعد بلفور جاء نتيجة سوء اوضاعهم الاقتصادية والمعيشية لا سيما اثناء الحرب ، كما ادركوا أيضا ان هذه الصعوبات المتزايدة التي كان يواجهها اليهود الروس أدت الى تنامي قوة الصهيونية واشتداد الهجرات اليهودية الى الخارج وقلة اهتمام غالبيتهم بالقضايا الثورية التي كان يتبناهاالاتحد السوفييتي . وإزاء ذلك توجهت جهود البلاشفة الى اجتذاب اليهود الروس والعمل على دمجهم بالمجتمعات الروسية ومنحهم الحقوق المدنية الكاملة .
وفي هذا الصدد كان البلاشفة يدركون ان قادة الفكر اليهودي ذوي الصبغة العلمانية يعارضون اتجاه الصهيونية القومي المرتبط بالامبريالية الغربية وكان هذا يتطابق تمام التطابق مع ما نادى به ستالين حينما دعا الى * اثارة المسائل القومية وحلها بصراحة وبطرق تعتمد على التوجه الاشتراكي ، وعلى وجهة النظر السوفييتية بحيث يتم إخضاعها ً تماما وبشكل نهاني لصالح الجماهير الكادحة( جوزيف ستالين ، الماركسية والمسالة القومية ( مترجم ) ، ص ٩٣-٩٤ ) وقد سعى البلاشفة جاهدين الى تحييد الصهيونية والعمل على اجتذاب قادة الفكر اليهودي وإشراكهم في بناء الدولة واتاحة المجال لهم لتولي مناصب حيوية في الحكم ، بحيث يودي ذلك الى تلبية طموحاتهم في الحصول على حقوقهم المدنية بالكامل وذلك بفضل التسهيلات التي أتاحتها الثورة البلشفية . كما كان لا بد من الحيلولة دون اتاحة المجال لليهود الروس ان يلتحقوا بصفوف الصهيونية وبالتالي يتجهون للهجرة خارج القارة الروسية ، وذلك عن طريق توسيع دائرة المساواة في الحقوق المدنية لتشمل كافة يهود روسيا . وكان الدافع الرىيسي وراء هذه السياسة يعود، كما قال لينين ، الى * ... الأهمية التي كانت تحتلها النخب اليهودية بالنسبة للثورة الروسية * . وفسرت احدى الوثائق من جانبها الموقف البلشفي تجاه اليهود بقولها : * إذا ما نجحت الصهيونية واستقطبت قادة الفكر من اليهود فانها ستسلبنا فورا أعدادا كبيرة ممن كانوا يعملون في مجتمعنا كمهندسين وأطباء وصيادلة ومعماريين وأخصائيين اخرين ، ونحن بأمس الحاجة اليهم لبناء اقتصادنا القومي * ( Lenin , ibid ) .
وكان البلاشفة يواجهون منذ نهاية نوفمبر عام ١٩١٧ مشكلة ضعف المهارات المهنية والفنية اللازمة لإدارة نظامهم الحديث فلجأوا لملء هذا الفراغ الى النخب اليهودية التي وجدت في ذلك فرصة للتحرر من مختلف القيود المفروضة عليها ، وقد برزت شخصيات يهودية عدة في البيروقراطية البلشفية حيث تبوات اعلى المراتب في مختلف المجالات ولا سيما في التعليم والاقتصاد والمال . وقد علق لينين على ذلك بقوله : * لم يتخذ اليهود موقفا معاديا للبلاشفة بل ساهموا في إيقاف أعمال التخريب والحد منها في وقت كان البلاشفة يحاربون للحفاظ على سلطتهم والحيلولة دون انفصال القوميات عن روسيا ...* ( المصدر نفسه ) . وكان البلاشفة يدركون من جانبهم ان أفراد النخب اليهودية كانوا يتعاونون مع نظام حكمهم بدافع ينبع من مصالحهم الفىوية الصرف دون الالتزام بالبرنامج الشيوعي أو التفريط باي من وجهات نظرهم * القومية * ، الا ان البلاشفة اعتقدوا ان قبول النخب اليهودية الالتحاق بالوظائف الحكومية سيوجد وضعًا لا يمكنهم معه اداء أي نشاط صهيوني في المجال اليهودي الخاص . كذلك فا الحاجة لليهود من اجل ملء المراكز البيروقراطية الشاغرة ومعرفة البلاشفة بالتزام اليهود العقائدي بالوجهة * القومية * قد أوجدت معا وضعًا كان على البلاشفة فيه تقديم المزيد من التنازلات لليهودالروس مقارنة مع الحركات القومية الأخرى . وقدمت هذه التنازلات بدافع من اعتبارات سياسية واقتصادية على حد سواء ، وظلت نافذة طيلة الفترة التي استمرت فيه روسيا في افي وضعها الحرج سياسيا واقتصاديا وعسكريا . . وهكذا كان البلاشفة بحاجة الى الحيلولة دون اتخاذ اليهود موقفا معاديا لثورتهم في الوقت الذي كان فيه البلاشفة لا يزالون يحاربون للحفاظ على سلطتهم وللحيلولة دون انفصال القوميات عن روسيا . ( ستالين ، المصدر السابق ) .
عير انه ضمن سياق الشؤون الداخلية في روسيا ولدى إنهاء البلاشفة انشغالهم بها واستقرار امورهم ، بداوا في نهاية عام ٩٢٠ التخلي عن سياسة المهادنة مع النشاط الصهيوني والقيام بمضايقات لنشاط الصهيونية للحد من تطلعاتها القومية الانفصالية والمطالبة بالاندماج الفوري لليهود الروس في التنظيمات الشيوعية المنتشرة في مختلف ارجاء الاتحاد السوفييتي اضافة الى تجنيد القادرين منهم وإدخالهم في صفوف الجيش الأحمر .