عن المراجعات الضرورية وكبح الاستدارات غير المبررة
قصة نجاح دولتنا الفتيّة، ونحن على أعتاب مئويتها الأولى، ارتبط بالمعلم الذي جاب على قدميه القرى والبوادي الأردنية ليزود أجيال البناة بالعلم والمعارف الأساسية..
المعلم في عشرينيات القرن الماضي اختار أن يلج معاقل الأمية، أن يتلقف الشباب المتأهبين للمعرفة، المقبلين بكل حواسهم وبكامل وعيهم على العلم وحمل راية البناء والنهضة، جنبا إلى جنب مع العسكر الذين بهم بدأ الحُلم وتشكلت ببطولاتهم وانتصاراتهم ملامح الهوية الوطنية الجامعة، هذه التضحيات في ميادين الشرف كانت الالهام الذي شكّل الرؤية، تلك السواعد التي حملت السلاح، أطلقت العنان للمعلم الذي حمل الحلم على أكفّ الراحة، وباشر بدوره في محو الأمية وشحذ الهمم ورفع وتيرة الارتباط بالأرض وبناء الدولة..
نعم، بناء الدولة، التي تاق لولادتها أبناء هذه الأرض الطيبة الذين نخرت الفوضى حياتهم، وتنازعتهم وشردتهم ومزقتهم قوى الاستعمار الغاشمة إربا إربا، أرادوها دولة مكتملة العناصر، دولة قادرة واعدة ديمقراطية، تقوم على قواعد ثابتة، عمادها العدل والمساواة واحترام الحقوق والحريات وسيادة القانون.. أرادوها دولة لا يُضام بها أحد، دولة تحتضن أبناءها وترعى مصالحهم وتنظم شؤونهم، دولة حانية تصون حرماتهم وتحفظ كراماتهم، وكان لنا -بحمد الله واصرار وعزيمة الأردنيين شعبا وقيادة سياسية- ما أردنا.. بهذه الروحية بتلك القواعد الراسخة -وبها فقط- تشكلت الدولة ونمت وازدهرت واستطالت واستمدت شروط بقائها واستمرارها..
إن البقاء الذي يضمن استمرارنا مئة عام أخرى، لن يتحقق إذا ما حدنا عن هذه القواعد، ومنطق العصا الغليظة والترهيب والترويع، وانتهاك الحقوق والحريات، وضرب قيم العدل والمساواة، ليس وصفة بقاء على الاطلاق، وهذا ليس بحاجة إلى اثبات، إنها حتمية تاريخية، وخلطة خراب جُربت، وثبت أن نهاياتها لن تكون لصالح الدولة والمجتمع.. علينا أن نستفيد من دروس التاريخ، علينا أن نبني على نجاح تجربتنا ونتمسك بتلك الثوابت التي ضمنت بقاء كياننا السياسي وتفرُّد تجربته..
التضحيات التي صانت استقلال واستقرار بلادنا طوال المئة عام المنصرمة، والعرق الذي انسكب من البناة الأوائل من العسكر والمعلمين قبل غيرهم، هو سرّ الولادة وسرّ البقاء. حكايتنا بدأت بالعسكر والمعلم وبقاؤنا مرتبط بهما..
وتأسيسا على ما كان، بقي أن نقول، إننا أمام منعطف هامّ، نتمنى أن لا يصبح استدارة غير مفهومة وغير مبررة إلى الخلف، كرامة المعلم من كرامة الوطن، والحوار اليوم هو ضرورة ملحّة، وعلى الساسة وصنّاع القرار تقييم الموقف جيدا، واجراء مراجعات عاجلة في هذا النهج الكارثي المستحدث.