حين يتنحى رجل بحجم شينزو ابي رئيس الوزراء الياباني دعنا نرفع القبعات لانجازاته


 لا شك ان قرار التنحي التي اتخذه رئيس وزراء اليابان لهو صدمة كبيرة في الاوساط اليابانية سواء منها الشعبية او الرسمية ، وليس الشرق الاوسط ببعيد عن وقع هذا الخبر فقد اعتدنا منذ ثماني سنوات تقريبا ان نسمع الاسم يتردد عند الحديث عن السياسة اليابانية، فعند ذكر اي خبر رسمي يقفز اسم رئيس وزراء اليابان او كما يسمونه باليابانية "صوري داييجين" رسميا وللتحبب يطلق اليابانيين على رئيس وزرائهم الاسم العائلي ثم يتبعونها "سان" اي "ابي سان " وهي ترجمة حرفية الى السيد ابي .

والرئيس شينزو ابي ينتمي الى الحزب الديمقراطي الليبرالي وهو الحزب الحاكم ، وفي اليابان يوجد اكثر من 10 احزاب سياسية اهمها على الاطلاق الحزب الديمقراطي الليبرالي او ما يعرف ب LDP) Liberal Democracy Party ) التي يتنمي لها رئيس الوراء الياباني الحالي . ويعتبر هذا الحزب الاقوى والاقدم في اليابان وفاز في عدة دورات في البرلمان منذ عام 1955-2009 حتى انه اصبح من المتعارف عليه في اليابان ان النتائج الانتخابية غالبا ما تكون محسومة لصالح الحزب الليبرالي الديمقراطي (المعروف باليابانية باسم جيمنتو) لكثرة اعضاءه ولانتشار مساحته على مناطق عديدية في اليابان .

والسيد ابي ولطول فترة رئاسته التي اعتبرت اطول حقبة يحكم بها رئيس وزراء استمرا الى ما يقارب من الثمان سنوات شهدت فترته عدة احداث اهمها تنحني الامبراطور اكيهيتو وتولي الامبراطور ناروهيتو وهي من الظروف الاستثنائية التي قلما تحدث في اليابان فعاصر امبراطورين خلال حقبته، كما ان مهمة تعديل الدستور طغت بشكل عام على فترة حكمه والتي كادت ان تفقده منصبه لما عاناه من معارضة قوية فقد صرح ابي في مؤتمر صحفي بعد انتهاء جلسة استثنائية للبرلمان عن التعديل "رغم أنه ليس طريقًا سهلاً، إلا أنني بالتأكيد أريد تحقيقه" ومع كل هذا لم يستطع الرئيس ابي تعديل الدستور فقد اشار في خطابه الاخير "معرباً عن أسفه وألمه بسبب فشله في تعديل الدستور" . وما كان يصبو اليه ابي في تعديل الدستور هو تعزيز دور الجيش الياباني ويشار ان الدستور الحالي والذي اشار اليه ابي سابقا في احدى لقاءته بان من وضع الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية يحتوي على "بعض الأجزاء التي لا تنسجم مع الوضع الراهن". وإنه يشعر بالقلق خاصة تجاه النص الدستوري "الذي يمنع اليابان من الحفاظ على القوات البرية والبحرية والجوية"، ويعتبر أن ذلك متناقض مع وجود قوات الدفاع الذاتي في البلاد . وفعليا في حال تم تعديل الدستور سوف يكون لليابان جيشا يدافع عنه بدل من جيش يحمي نفسه كما اشار ابي الى ذلك صراحة "إن تعديل الدستور من شأنه أن يعطي أساسا قانونيا من تدابير الدفاع المثيرة للجدل، ويرفع القيود المفروضة على نشر القوات اليابانية في الخارج ويراجع مفهوم تحديد الدفاع عن النفس ليشمل مساعدة الحلفاء" وهذا النص يعتبره كثير من اليابانيين ببساطة وداعا لدستور السلام والشعب لا يريد ان ينخرط في الحروب بعد الم ووجع الحرب العالمية الثانية.
.ولم ينأى الرئيس ابي بعيدا عن الشرق الاوسط فخلال حقبته زاره ثلاث مرات شملت من الدول العربية مثل دولة الامارات العربية والسعودية وسلطنة عمان ومصر والاردن وايران كلها زيارات كانت دعما لاستقرار المنطقة ولعل اشهرها زيارته الى المملكة العربية السعودية في عام 2013 عندما القى خطابا هاما في جامعة الملك عبد العزيز التي لها مكانتها لقدمها وعراقتها التاريخية وكنت قد كتب عنها سابقا في حينها تحت عنوان "رئيس وزراء اليابان يكشف سر المفاتيح الثلاثة لمعيار العلاقات اليابانية القادمة في الشرق الاوسط" بين فيه الاسس والاطر التي تتطلع اليابان لاقامة تعاون اقليمي مشترك ، وحدد آبي العلاقات القادمة في الشرق الاوسط ، وملخصها ان سياسة اليابان القادمة في الشرق الاوسط سوف تقوم على عدة عناصر اساسية واشار اليها رئيس حكومة اليابان بالمفاتيح وقد ركز على ثلاثة مصطلحات اساسية ارتكزت على المحاور الثلاثة (1-التعايش 2-التعاون 3-التسامح ) . وان المبادئ الثلاثة هي في طابعها ترمي الى بعد مهم وهو نبذ العنف والارهاب والبعد كل البعد عن كل ما يزيد من التفرق والتطرف تحت اي مبدأ طائفي وديني وعنصري ، وهو بطريقة غير مباشرة مبدا ما قامت عليه الدولة اليابانية وهو بلا شك الدستور التي تقوم من اجله اليابان بمساعدة دول العالم الثالث ، بدون اي تعصب مذهبي او طائفي او عنصري وقد يكون هذا سر نجاح اليابان في تاسيس مكانه عالمية تحظى بكل الاحترام والمحبة لانها تنظر الى الشعوب من منظور التعاون والتعايش والمحبة والسلام وهذه نظرة السيد ابي الى الشرق الاوسط من منظور سلمي .
اما عن الاردن ففي عهد الرئيس ابي فمن الملفت ان عدد الزيارات الرسمية للاردن كانت زيارتين الاولى في في 17 من كانون ثاني 2015 والثانية في 30 نيسان 2018 وغالبا ما كان يصطحب الرئيس ابي عددا من الاقتصاديين ورجال اعمال لهم وزن في اليابان باشارة تامة لدعم الاردن اقتصاديا لما يحظى الاردن من علاقات مميزة منذ عقود ومن الطريف هنا ان نتذكر اخر زيارة لرئيس وزراء ياباني كانت للرئيس كويوزمي في 12 تموز 2006 وهو زيارة سياسية محضة الهدف منها تهدئة النزاع الفلسيطيني الاسرائيلي في تلك الفترة والتي اشار اليها كويوزمي حين قال للصحفيين قبل سفره "ستدعو اليابان لضبط النفس لوقف دائرة الكراهية والعنف ، اليابان بوسعها ان تقدم العون للمنطقة بطريقة تختلف عن الغرب وتحديدا على شكل معونات انسانية ومساعدات لتحسين الاحوال المعيشية للناس" فالزيارة لم تكن هدفها الاول الاردن بعكس زيارات السيد ابي . لقد حظيت العلاقات الاردنية اليابانية خلال فترة السيد ابي بدعم كبير خاصة خلال فترة تدفق اللاجئين وقدمت الحكومة اليابانية الكثير من المساعدات وقد شكر الملك عبدالله الثاني برسالة بعثها الى السيد ابي واشاد بجهوده و"دوره القيادي المهم في تعزيز علاقات الشراكة الاستراتيجية بين الأردن واليابان" والتي عبرت عما تكنه القيادة الهاشمية والشعب الاردني للسيد ابي .شخصيا وللدولة اليابانية عامة

ان الرئيس ابي كان دائما شعلة من الحيوية والعمل حتى التفاني لدرجة انه لا يحظى باي اجازة رسمية ولعل هذا هو السبب وراء التدهور الصحي الذي عاناه نتيجة الارهاق والتعب حتى في زيارته الرسمية كان لا بد ان يزود يوميا بتقارير واخبار الساعة للبلد الذي يزورة ويجب ان يطلع عليها ويقراها قبل الشروع في بدء مراسم الزيارة الرسمية وتخيل حجم الاخبار التي يجب ان يطلع عليها يوميا خاصة في الشرق الاوسط ومثل هذه الاخبار تكون على مدار الساعة وتزود له بتقارير طول فترة الزيارة .

وكما برع السيد ابي في المجال الدبلوماسي فلم يفته الى ان يلعب دورا كبيرا في انقاذ الاقتصاد الياباني من الهبوط والتهاوي اذ قام وعلى المستوى المحلي بسلسلة من التدابير الاقتصادية المعروفة بشكل غير رسمي باسم "أبينوميكس" - والتي يمكن ترجمتها - بالسياسة النقدية، والحوافز المالية والإصلاحات الهيكلية – والتي تهدف الى تعزيز الاقتصاد الياباني والتعافي من الركود منذ فترة طويلة. وقد عززت التدابير في البداية الى نمو الناتج المحلي الإجمالي في عام 2013، ولكن قد انكمش الاقتصاد منذ ذلك الحين في ثلاث من الأرباع الأربعة الماضية . وكان أحد الأسباب الزيادة في ضريبة المبيعات في شهر أبريل، التي اخذت تؤثر على الاستهلاك الخاص وكان من المقرر أن يتم رفع الزيادة الثانية في ضريبة المبيعات في عام 2015 ، وعندما لاحظ السيد ابي ان ذلك سوف يدخل البلاد في انكماشة جديدة دعا في 18 نوفمبر تشرين الثاني من عام 2014 الى تأخير هذا التوجه عن طريق حل البرلمان والدعوة الى انتخابات مبكرة ، لاعطاء فرصة لاتخاذ القرار المناسب وعدم جر البلاد الى انكماشة جديدة .
ولعل ما قام به الرئيس ابي اثناء الجائحة العالمية كوفيد 19 وانقاذ اليابان من اسوأ كارثة اقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية هي اقرار حزم اقتصادية لمنع السوق المحلي من الانهيار اذ وافق مجلس الوزراء على صرف اكبر تحفيز مالي واقتصادي في تاريخ اليابان بقيمة 990.2 مليار دولار، لمواجهات تبعات تفشي فيروس كورونا بحيث تشمل الحزمة معونات نقدية للأسر والشركات الصغيرة، وتأجيل دفع الضرائب فعلى الرغم من النقد الذي تلقاه الرئيس ابي في كيفية التعامل مع منع نشر الوباء الا ان رؤيته الاقتصادية ساهمت في منع الانهيار الاقتصادي الياباني.
ولم تخلو حقبة ابي من نزاعات سياسية مع الدول المجاوة لليابان ولعل ابرزها ما حدث مع الصين وكوريا الجنوبية والنزاع الدائم مع كوريا الشمالية فقد استطاع امتصاص الهجمات الكورية الشمالية للصواريخ التي كان يطلقها الزعيم الكوري الشمالي وكذلك التهدئة مع كوريا الجنوبية بخصوص النزاع على جزر تاكيشيما مع الصين وكذلك النزاع على جزر سنكاكو مع كورياالجنوبية ، دون اللجوء الى اي تصعيد وبهدوء تمت السيطرة على هذه النزاعات دون تكبيد اليابان اي تهورات سياسية او عسكرية قد تجر المنطقة بنزاعات لا يعرف منتهاها فهذا موقف يسجل للسيد ابي ،
ان ما قدمه السيد ابي هو حقا من الانجازات الخارقة خلال الحقبة التي مارس بها سلطاته فقد كان فعلا رسول سلام في معظم المناطق الملتهبة بالحروب وعدم الاستقرار ولعب دورا كبيرا في دعم الشرق الاوسط والقضية الفلسطينية وجانب ان يكون دوما في مربع السلام بعيد عن كل الضغوطات لرفض قرار نقل السفارة اليابانية الى القدس وهذا موقف يسجل له في المنطقة
ولا يسعني في الختام الى ان اقتبس حرفيا ما قاله السيد ابي في اخر خطاب له عندما قال :"لا يمكنني أن أكون رئيساً للوزراء إذا لم أستطع اتخاذ أفضل القرارات للشعب. قررت التنحي عن منصبي" الا يستحق مثل هولاء ان نرفع لهم القبعات ... ابي شينزو لقد قدمت افضل ما عندك ولم تعجز يوما ان تقدم ما هو الافضل لليابان وللشعوب نتمنى لكم الصحة والشفاء العاجل لان من مثلكم لا يتنحون بل يبقون شموعا تنير لما بعدهم ايقونة النجاح ليسيروا على طريق الاصلاح والتقدم لقد اضأت شمعة لمن سوف يخلفك ليكمل المسيرة على طريق الهدى وسوف تقدمها له ليكمل المسار الذي تطمح اليه وهكذا عهد الشعب الياباني دائما تسيلم انجاز الى انجاز وهكذا علمنا الميكادو ان نرى الاوطان اما وابا... السيد ابي كل التحية والاحترام لمثلكم تنحني لها القامات وليس القبعات