ملامح رجل يشبهنا
كتب محمد لافي -
تقول نظرية في علم النفس الاجتماعي أن الناس ينحازون لمن يشبهونهم، ليس العرق في ذلك حصرا لتحكمه ملامح الشكل أو اللون، بل تجري نفس النظرية على من يتشاركون دربا من الكفاح أو شطرا من الحياة، تجمعهم مأساة أو تلفهم مسرة، تشد من ذلك أواصر بين هذا الفرد وذاك دون آخر، تتحكم بذلك درجة التشابه والاندماج.
لعل هذا ما يسمى هنا تكفلا وهناك التشاركية، لكن في مخيماتنا ومنها مخيم الوحدات نكثف كل ذلك في مفردتنا التي تجعل للانحياز معنى أسمى، "القضية". كلما عصفت على وشائجنا ريح سموم، أو شدت الدنيا علينا من حلقاتها، أو شجت ضروب القهر آحلامنا، لا يكون من معنى يصيب صميم قلوبنا فيعيد للأمل أيماننا، وللعمل اصرارنا وللوحدة سموها مثل القضية.
على مر الزمن المؤرخ بالنكبة شهدت أمتنا وعيا فريدا عبر تاريخها بمعنى القضية، وكان لأبناء المخيمات -أبناء القضية- أن يكون قدرهم حمل صخرتها أينما وكيفما حلوا، فمروا ومرت بهم القضية في مفاصل الجهاد والاستشهاد والشتات المكرر والنفي والغياب. وكلما دار الزمن دورته فأضاق الحبل عليهم أكثر، كرسوا القضية أكثر نهجا وأسلوب حياة، حياة الجماعة والفرد على حد سواء، فصارت العقبة دافعا والفاقة حافزا، وكسرة الخبز الجاف مرتعا للكرم، فلم يكن غريبا أن يستند بعضنا على بعض للصعود في معترك الحياة.
من هؤلاء نستقي مثلا لأحد أبناء مخيمنا، الرجل المكافح رائد صبحي المحسيري، انتقعت قدماها غضا في غبار المخيم وتصلبتا بعرقه، شأن الكثير منا، كانت نزهته بعد الدرس في أسواق المخيم التقاطا لمعاني الاعتماد على النفس في تحصيل -لا مصروفه وحسب، بل وتأكيد الانتماء للأسرة برفدها بجهده. تسابق بجسده الفتي مع الزمن والحاجة في سوق الخضار كالكثيرين غيره، كأننا بقصة الشهيد غسان كنفاني تكرر نفسها مرارا في حكاية شعبنا "بين رصاصتين".
ارتفعت معرفة الشاب رائد وارتقت خبرته، فسنوات الاعتراك العملية في سوق المخيم شحذت لديه إرادة صناعة مصيره الشخصي، ودون أن تكون دراسته الجامعية سببا في تأجيل حلمه أو العكس، تقدم حتى حاز على بسطته الخاصة في سوق المخيم، كانت كالمنارة في المخيم بعد ان تحولت لملتقى الرفاق والاصدقاء من حملة القضية وأصحاب الفكر والثقافة، يجتمع على حوافها الشباب مساء يسكبون فيها حصيلة يومهم يتجاذبون الاراء والأخبار عن المقاومة غربي النهر وواقع الدعم والرباط شرقيه.
كبر رائد واتسعت رقعة جهوده كما اتسعت يده البيضاء، فغدت البسطة محلا، وانبت المحل شهادة جامعية ورجلا عمليا اثبت أن التخطيط قبل العمل مهما بدى طموحا لن يكون مغامرة ما دام متماسك الرؤى ملتصق الجذور نقي السريرة صافي الضمير.
أهالي المخيم يعرفون رائد جيدا، فتاهم الصلب والحقيقي، ولا يحتاجون لمزيد من الدلالة لتثبت لهم أن رائد يعيش القضية ويتنفسها، القضية بكل معانيها في الانتماء ومد اليد للجميع، فلم يغادر المخيم انتماءه ولا غيبت ذاته مجتمعه، فظل على الدوام مشهودا في هذا الزقاق أو تلك الحارة، يطمئن لرفق خطواته شارع سمية مذ كان زقاقا حتى صار طريقا، ويألفه التطوير والنادي، ترتفع صلاواته من مساجد المخيم من القدس جنوبا وحتى الجامع الكبير الذي كان على مدار عقود حياته ملجأ اطمئنانه ورجاءه.
هو ذا رجل يشبهنا، وقف معنا ووقفنا معه، خبرناه وخبرنا، واختلطت كفاحاتنا في معترك الحياة، ان فرقتنا ضروب المعيشة فقد جمعتنا القضية، وسبكتنا في انتماء لم يقرأه علم الاجتماع النفسي الغربي فينا، لكننا نستدل عليه بكلمة حق تقال، في رجال لله، أبرار للقضية. مخيمك يعرفك ومحيطه يشهد بكل من عرفك. الأخ والرفيق رائد صبحي المحسيري.