انطفأ مشعل آخر للأغنية اللبنانية... سمير حنّا رحل وقلبه مع الجميع
في الخامس والعشرين من تموز المنصرم، قطع أنفاسنا خبر رحيل الفنان القدير مروان محفوظ، وبعدها أُكمل على ما تبقى لنا من مشاعر في الرابع من آب بفاجعة بيروت التي لا يزال اللبنانيون حتى هذه اللحظات يحاولون بصعوبة استيعاب ما حصل خلالها.
يتجدد الحزن بالإعلان عن وفاة الفنان القدير سمير حنّا بعد صراع شرس مع مرض السرطان، وقد توفي اليوم "عنتر الغناء" عن عمر 74 عاماً.
يحتفل لراحة نفسه الرابعة من بعد ظهر الأحد (6 أيلول) في كنيسة مار يوحنا- الحبيب كرخا قضاء جزين. واعتذرت عائلة الراحل عن عدم تقبّل التعازي التزاما بالاجراءات الصحية في ظل انتشار جائحة كورونا: "نتشارك لاحقاً بقداس إلهي لراحة نفسه".
تدهورت في الآونة الأخيرة الحالة الصحية لسمير حنّا نقل على إثرها إلى المستشفى بعدما خاض معركته مع مرض سرطان الحنجرة والذي سرعان ما انتشر بخبثه في جسده، خاطفاً فناناً لبنانياً طالما كان محافظاً على الأغنية اللبنانية ومتمسكاً بجذورها.
شاء القدر أن يعاني ما عاناه زميله في الفن الراحل سمير يزبك، فأتت النتيجة واحدة: خسارة لن تعوّض لأمثال وديع الصافي، سمير حنّا، سمير يزبك، ملحم بركات، مروان محفوظ، نهاد طربيه، عازار حبيب، عصام رجي وآخرين.
مديرة أعمال الراحل نورما عبدالكريم نعته واعترفت أنها أخفت عن قصد خبر مرضه بطلب شخصي من حنّا، وكتبت: "رحيل الفنان الكبير سمير حنا. ألف رحمة على روحه. عزُّ عليُّ نشر هذا الخبر. أكتب كلمة وأتوقف دقائق. أنا مديرة أعماله نورما عبد الكريم. آلمني رحيله كثيراً، وقلبي يبكي دماً على هذا الأب والاخ والصديق. سمير حنا كان يتعالج بسبب هذا المرض الخبيث منذ بضعة أشهر لكنني لم أنشر الخبر بيوم من الأيام. ولأنّ سمير لا يحبّ أن يحمّل أحباءه ومعجبيه هموماً فوق هم لبنان والأوضاع المعيشية وكورونا، ولأنّ كل إنسان همّه يفوق الخيال. سمير حنّا ماذا عساي أن أقول لك أو عنك وأنت الرجل المحترم الذي لم ينسَ الله يوماً والكنيسة تشهد لك. رحمك الله يا "آدمي".
نقابتا "محترفي الموسيقى والغناء في لبنان" و"الفنانين المحترفين في لبنان" نعتا حنّا: "ببالغ الحزن والأسى تنعىنقابة الفنانين المحترفين في لبنان رمزاً من رموز الفن الجميل الفنان سمير حنّا وتتقدم بأحر التعازي من أسرته الكريمة والأسرة الفنية، تغمده الله بواسع رحمته وأدخله فسيح جناته".
ولد سمير حنّا في قرية كرخا الجزينية، ولمع منذ الثمانينات باللون الجبلي. في رصيده مئات الأغنيات التي حفرت عميقاً بين الرومنسية والشدّة الجبلية. فتارة هي أغاني العشاق التي ترافقهم في ليالي السهاد والاشتياق، وتارة أخرى هي أغاني العنفوان الوطني والأهازيج التي تتشابك الأيادي على ألحانها في حلقات الدبكة.
عاش قصة حب مع الممثلة هلا عون تكللت بالزواج، لكن وقعت بينهما الخلافات فانفصلا. وانجبت منه ماريا حُرم من رؤيتها ولم يسمع صوتها أو يشاهدها بعد طلاقه من عون. يتكلم دائماً بتأثر عنها، لا سيّما أنه كان يعلم عنها كل شيئ: "طبيبة رائعة الجمال".
عندما كان يتحدث عن مسيرته الفنية يصفها بالشاقة، فقبل دخوله عالم الفن كان يغنّي في الرحلات وجوقة الكنيسة في عين الرمّانة. وفي إحدى الرحلات سمعته آنسة يغني في الباص، أعجبت بصوته، فاصطحبته مع جوقة الكنيسة إلى سهرة في جونيه، وطلبت منه الغناء. وشاءت الصدف أنّ الصحافي الراحل سعيد فريحة كان موجوداً، فأعجب بصوته وصفّق له، وطلب منه زيارته في "دار الصّياد". ابتسم له الحظ بعدما عرّفه فريحة على الشحرورة الراحلة صباح، التي بدورها اصطحبته للغناء معها في أفريقيا، فكانت الشرارة لانطلاق حنّا إلى عالم الفن.
اعتبر حنّا "معليش الله يسامحك" للموسيقار الياس الرحباني من الأغنيات الأقرب إليه لأنّه غناها إثر تجربة مرّ بها وأثّرت به كثيراً، وكان يظهر عليه التأثر في مقابلاته التلفزيونية في كل مرّة يؤدي الأغنية. لطالما عبّر الراحل عن فخره بالتعاون الطويل مع الموسيقار الياس الرحباني الذي قدّم له أكثر من 18 لحناً. ومن يستطيع أن ينسى أرشيفه الفني الذي ألفه الجيل الجديد وليس القديم فحسب: "الليلة يا ويلي شو بدو يصير"، "يا قمر لو رحت بعيد"، "خصرك لما مال"، "يللي مش عارف اسمك"، "قالولي عنك دلوعة"، "قالولي كتبوا كتابا"، "لبسنا شراويل جدودنا".
من أصعب القرارات التي اتّخذها في حياته كان سفره إلى البرازيل. أكّد في جميع لقاءاته الصحافية والتلفزيونية أنّ الحروب التي توالت على لبنان دفعته إلى اتخاذ هذا القرار القسري. غير أنه لم يستطع أن يجعل من ابتعاده عن جذوره طويلاً، عاد بعد غياب طويل إلى مرجعه الأول والأخير لبنان.
القدير سمير حنّا أراد دوماً التواجد بين المحبين لفنّه، يعلم أنّ الجمهور دائم التعطش للفن الجميل والزمن الأصيل، وهو كان موجوداً في الرابع من حزيران الفائت في إحدى الحفلات يغنّي روائعه إلى جانب عدد كبير من الفنانين.
قلبه كان على لبنان وعلى اللبنانيين، وهو ما عبّر عنه في المنشور الأخير الذي كتبه في 26 من حزيران الفائت: "مساء المحبة للجميع. انشالله تكونوا بخير بهالأوضاع من كورونا لاوضاع مؤسفة بهالدنيا. بحب اتطمن عنكم من وقت للتاني انتو حبايبي ومحبيني، وان شاء الله الخير والسلام والاوضاع ترجع احسن من ما كانت".
هكذا هم الكبار، يعزّ علينا التذكير بعيّنة صغيرة من أرشيفهم الذي هو جزء لا يتجزّأ من تراثنا اللبناني لدى رحيلهم، ولكن من خلال استعراض هذه العيّنة مما قدّمه الراحل سمير حنّا يتأكد لنا في كل مرّة أنّ الأصيل يبقى أصيلا، وسمير حنّا لا يأتي مثله، وستبقى أغنياته مصدراً للحنين في النفوس إلى ما كل ما هو جميل عن لبنان.