"رحيل إلى فضاء آخر" للروائية الجشي.. الحب إذ ينقذ الإنسان من الجنون
تندرج رواية "رحيل إلى فضاء آخر" للكاتبة جليلة الجشي ضمن تصنيف ما يمكن اعتباره بالسيرة التسجيلية الغيرية التي تتناول حياة بطلة الرواية آمال وتتبع مسيرتها منذ الطفولة إلى نهاية أحداث الرواية، ورغم ما يمر بها من مأسٍ إلا أنها تبقى صامدة بإزاء اختبارات الحياة التي منحتها الذكريات الجميلة.
وتنوع الجشي في الرواية الصادرة عن "الآن ناشرون وموزعون" بعمان بين عدد من الأساليب السردية التي يغلب عليها الواقعي، مستفيدة من وقائع الحكاية ورمزية قصة النبي يوسف وما تعرض له من أقرب الناس إليه والاختبارات التي تعرض لها مشيرة إلى أن الحياة تعرض الكائن لمقاديرها، ولكن صمود الإنسان هو الذي يميزه ويعمق إنسانيته.
وتنوع الروائية الجشي في أحداث "رحيل إلى فضاء آخر" بتوظيف عدد من الأساليب التي تتناسب مع حال الراوي وتنقلاته من مناخ إلى آخر متضاد معه بين السوريالية في وصفها لأوضاع اللاجئين في بيروت، والواقعية السحرية حينما تصف عبر المتخيل أو المشاهدة العيانية على لسان البطلة الطبيعة الفلسطينية الخلابة.
فرح مؤجل
تعمد الروائية في توزيعها للأزمان الروائية إلى التتابع الخطي المتنامي للأمام في متابعة حياة البطلة منذ طفولفتها التي عاشتها في المخيم بوصف لطبيعة البيوت الزينكو التي تدلف في الشتاء، مرورا بدراستها، وزواجها في المرة الأولى التي تكتشف فيها خيانة مَنْ أخلصت له، ثم زواجها الثاني الذي ينتهي بمأساة، كما تعمد إلى الزمان الاسترجاعي في الذكريات التي تعيشها والدة البطلة حليمة لوصف حياتهم الهانئة في فلسطين قبل احتلالها من الكيان الصهيوني.
الكاتبة الجشي التي كان صدر لها من قبل عن الدار ذاتها في أدب النصوص "نم أيها الموت" و"جرح البوح" تلعب في روايتها الأولى على وتر الزمن والمكان وتحولاته وتحديدا بالنسبة للإنسان الذي فقد أرضه من خلال الإغراق بوصف الجوانب النفسية للحالة التي يمكن أن يعيشها الإنسان ضمن ظروف غير طبيعية، سواء أكانت على الصعيد الذاتي أو المجتمعي الوطني، غير أنها في جانب آخر تغدق أيضا بالرومانسية التي تصف فيها لحظات السعادة القليلة أو الفرح المؤجل الذي تمنحه الحياة لأبطال الرواية من ثقب صغير يطل بشعاع يمنح الأمل وإن كان بلحظات من الحب المشوب بالفجائع.
ورغم ما يغلب على الرواية من ظلال الحزن، وتحديدا تعرض زوجها الثاني لخسارة صادمة في أعماله التي تفقده عقله ويحاول قتلها ثم ينتحر، إلا أن الكاتبة لا تعدم الأمل الذي يملأ روح البطلة التي تمارس الرسم وتحقق نجاحات كبيرة فيه، ولعل ذلك الأمل يتأتى من الرمزية التي تحملها في بعض وقائع الرواية وأسماء شخوصها والصدف الجميلة التي تتحقق لهم في الحياة، ومن تلك الرمزيات اسم بطلة الرواية آمال الذي يعبر عن التفاؤل والإيمان بأن العمل يفتح أبوابا مغلقة، ولكن ذلك لا يمكن أن يتأتى إلا بالإرادة.
رصد حياة المهمشين
تقول الكاتبة الجشي: إن الرواية "تمثل حياة الكثيرين وواقع تجاربهم وبين سطورها هموم وأحزان ومعاناة ممن لا صوت لهم سوى أن يقرأوا أنفسهم في صفحات هذه الرواية تاركة الشخصيات الافتراضية تعيش احلام البسطاء من القراء بين آمالهم وآلامهم".
ولا تخلو الرواية من عدد من الإنماط السردية الحديثة التي تنفتح على الوصف المشهدي أو البوح، وتتعمد في الرواية التي جاءت في 210 صفحات من القطع الوسط إلى تطعيم المتن بعدد من الأنماط الروائية التراثية، ومنها : "كان يا ما كان"، و"كان في قديم الزمان" التي تمنح الروي مصداقية المستويات الحكائية بين شخوص الرواية، فضلا عن إثراء النص بعدد من تقنيات السرد بين الحوار والمونولوج والحلم، وحلم اليقظة .
تلجا الكاتبة الجشي التي صدر لها " نم أيها الموت" إلى اللهجة الدارجة الفلسطينية، وتشبع النصوص بعدد من القصائد والمقولات والأمثال والأغنيات الفلسطينية التي تثري النص. وقسمت الكاتبة جسم الرواية في عدد من المشاهد بعناوين فرعية التي تحمل أسماء الشخوص أو الأماكن أو الأحداث لتشكل عتبات وإشارات تدل القارئ وتقوده لتحول الحدث وانتقاله المكاني أو الزماني. وهو ما يحمل الكاتبة الانتقالات الزمانية والمكانية الرشيقة بالعناوين الفرعية التي تشكل أدلة لانتقال السرد إلى مناخ آخر من الحكي.
قصة حقيقية
ومن المهم هنا التذكير أن رواية "رحيل إلى فضاء آخر" تعتمد في وقائعها على قصة حقيقية، وهي حكاية تهمس بها الكاتبة بخفوت إلى من تثق به، ولكنها أحيانا تصرخ بملئ فمها لتسمع الجميع، تصرخ بجنون في وجه عالم لا يستقيم فيه العقل وتمزج بين ذكريات الطفلة البائسة في المخيم ونضالها لتحقيق آمالها وأمنياتها، ومصائد الحياة التي ينصبها القدر لها كواحدة من أبناء هذا الشعب الذي كتبت عليه المعاناة. حيث تقع أحداث الرواية بين ثلاث قارات، وخمس دول ومدن: عمان، فلسطين، دمشق، بيروت، إيطاليا ، لندن وكندا. وفي زمن لا يتوقف عند عمر الإنسان بل يؤرخ بفجائعه، لتسرد في الرواية خطاً واحدا من المصائر التي يعيشها شخوص الرواية بين تمزق المكان والزمان والشتات والمنفى وقهر الحياة والمحتل. فثمة ربط خفي بين الواقعة المأساوية لبطلة الرواية آمال، وحال الأرض المغتصبة، وهو خيط رفيع الذي يعبر عنه بطل الرواية يوسف بقوله: "لن تكوني وحيدة، ستكونين وطني".
وتقول الروائية الجشي: "لا نستطيع عند السرد الروائي إقصاء الخيال عن الواقع فبعض التوصيف يحتاج إلى الخيال ودمجه مع الواقع لتكون الكتابة أكثر قوة وإقناعا للقارئ من حيث الحبكة السردية، حيث يتدفق الخيال الممزوج بالواقع فيضيف على جمالية السرد عناصر التشويق المراد من خلالها شد ذاكرة القارئ لمتابعة القراءة حتى النهاية.
من مناخات الرواية: "عندما يسرقنا الحب تغدرنا الإرادة ويتوقف العقل عن التفكير، الحب هو ذاك اللص المحترف الذي يقتحم علينا المكان والزمان دون أن يرعبنا.." ومما اختاره الناشر للغلاف الأخير: "أرجوك لا تشعرني بالعجز حيال الوقوف إلى جانبك، دعني أرد لك القليل مما فعلته من أجي، حسبت حينذاك أن الرجال الأوفياء انقرضوا من الوجود، لكنك جعلتني بوجودك أقوى".