مشروع الدولة اليهودية بين تيودور هرتزل والقيصر الألماني
كانت ألمانيا اول دولة توجه اليها هرتزل طالبا مساعدتها في إقامة دولة يهودية أما في فلسطين وأما في أي مكان اخر يتم الاتفاق عليه ضمن ممتلكات الدولة العثمانية . وقد شكل اندفاع ألمانيا الاستعماري صوب الشرق فرصة مناسبة لهرتزل كي يقوم باتصالات ومفاوضات مع المسؤولين الألمان لعله ينجح عن طريقهم في تحقيق مشروعه الاستيطاني وإنشاء الدولة اليهودية . ولقيت محاولات هرتزل الاتصال بالألمان ترحيبًا حارًا من جانب الزعماء الصهاينة ، لا سيما وان الكثيرين منهم كانوا من اليهود الألمان ، بالإضافة الى ان الثقافة الأصلية لهرتزل نفسه كانت ثقافة ألمانية . ولا شك ان العلاقة الوطيدة التي كانت تربط ألمانيا بالدولة العثمانية كان لها اكبر الأثر في تركيز هرتزل ومؤيديه على برلين .
بدا هرتزل حملة مكثفة من الاتصالات بهدف التوصل لمقابلة القيصر الألماني قبل قيامه بزيارته الرسمية المقررة الى الاستانة ، فاتصل بصديقه القديم القس الانجليكاني وليام هشلر الذي هيا له مقابلة مع دوق بادن ، فريدريك الأكبر ، قريب القيصر ويلهلم الثاني ، وكان لهذا اللقاء أطيب الأثر في نفس هرتزل لا سيما وان الدوق أبدى تعاطفا كبيرا مع الصهيونية ، مما جعل هرتزل يرى فيه وسيطا مناسبا للتوصل من خلاله لمقابلة القيصر ويعرض عليه مشروعه الاستيطاني . لكن القيصر لم يستجب في بداية الامر لوساطة الدوق بخصوص طلب هرتزل . فما كان من هرتزل الا ان بادر بالاتصال بالكونت فيليب اويلنبورغ ، السفير الألماني في فينا ، حيث نجح في إقناعه بتقديم تقرير للقيصر عن أهداف الحركة الصهيونية واهميتها بالنسبة لالمانيا ، كما حاول هرتزل إقناع اويلنبورغ أيضا بترتيب مقابلة له مع القيصر كي يطلب منه التوسط لدى الباب العالي لمنح اليهود استقلالا ذاتيا في فلسطين يضمن لهم إقامة المستوطنات وجلب المهاجرين اليهود من كل مكان وخاصة من أوروبا الشرقية وذلك تمهيدا لإنشاء دولة يهودية بحماية ألمانية . ولكن اويلنبورغ اكتفى فقط بتامين مقابلة لهرتزل مع فون بيلوف وزير خارجية ألمانيا في مقر السفارة الألمانية بالنمسا .
وكان محور حديث هرتزل مع كل من فون بيلوف واويلنبورغ يدور حول النهج المعادي للاشتراكية الذي تتبناه الحركة الصهيونية . وادعى هرتزل ان بإمكان حركته الحد من خطر الاشتراكيين الثوريين نظرا لان غالبية زعمائهم كانوا من اليهود . وقد اكد هرتزل لوزير الخارجية الألماني ان اليهودي بطبيعته التقليدية لا ينسجم الا مع * المجتمع القائم على الفردية* . وكان مما سجله هرتزل في مذكراته حول هذا اللقاء : * اتفقت وجهات نظرنا في كل الأمور المتعلقة بالاشتراكية وأخطارها ... ولم يستطع الوزير ان يخفي تقديره واعجابه لما يمكن ان تقوم به حركتنا للحد من انضمام طلبتنا في الجامعات الى التنظيمات الثورية ، اضافة الى الحد من اخطار هذه التنظيمات ...* ( M . Lowenthal, The Diaries of Theodore Herzl, p. 235 ) . وفي نهاية الاجتماع استطاع هرتزل ان يحصل على وعد بمقابلة القيصر الألماني . وأثار هذا الوعد وما سبقه من المباحثات الكثير من التفاؤل لدى هرتزل ، فبعث برسالة الى صديقه دوق بادن يقول فيها : * ... قبل عامين قابلتكم وقدمت إليكم الحركة الصهيونية ... ومنذ ذلك التاريخ شهد العالم الكثير من الوقائع والأحداث ... فالسياسة الألمانية بدأت تتجه الان بخطوات سريعة صوب الشرق،وها هو القيصر على اهبة الاستعدادللقيام بزيارة الاستانة وبعدها سيتجه لزيارة * أورشليم * حيث سيكون لهذه الزيارة صدى واسع في نفوسنا ... والآن اعود إليكم من جديد لأضع الحركة الصهيونية في خدمتكم ، وكلي ثقة بانها ستحظى بدعمكم ومساعدتكم... وهذا ما كنت اتمناه خلال هذين العامين . ان اليهود يشكلون عنصرًا قوميًا محايدًا وباستطاعتهم تقديم الكثير من الخدمات لسياسة ألمانيا التوسعية صوب الشرق مقابل مساعدتهم * لاسترداد وطنهم * كي يستقروا فيه ويتخلصوا من * معاناة النفي والتشرد * ويوفروا لابنائهم * وطنا * يحميهم ويجنبهم الانضمام الى الأحزاب الثورية *( ibid ) . وهكذا يتضح من أقوال هرتزل ان ألمانيا ستكسب أعوانًا وعملاء يقدمون لها المساعدة والخدمات في مخططاتها الاستعمارية التوسعية في الشرق ، اضافة الى المساندة اليهودية لها في سعيها للتقليل والحد من خطر الأحزاب الثورية .
وما لبث هرتزل ان تلقى في اكتوبر عام ١٨٩٨ أنباء من اويلنبورغ مفادها ان القيصر متحمس للمشروع الصهيوني وأنه على استعداد لمقابلته ضمن وفد صهيوني في كل من إستانبول والقدس . عندها أخذ هرتزل يستعد للمقابلة وفي ذهنه اقتراح يتضمن إنشاء محمية ألمانية لكيان يهودي سياسي في فلسطين ، وقد دون في يومياته حول هذا الموضوع ما يلي : * ... علينا قبول الحماية الألمانية إذا ما قدمت إلينا ، فحماية ألمانيا ، الدولة القوية ، ستؤثر التأثير الأفضل على الشعب اليهودي الذي يؤمن بانه إذا ما تحقق حلمه بالحصول على وطن وبحماية ألمانية ، فان في ذلك ضمانًا قانونيًا كافيًا ، وسيكون فيه اكبر فايدة تعيننا في سعينا لإقامة دولتنا اليهودية ( Herzl, Diaries , Vol 11, p. 668 ) .
هذا التغيير في موقف القيصر حول مقابلته لهرتزل تحقق نتيجة نصائح مستشاريه وخاصة السفير اويلنبورغ الذي أقنعه بأهمية المشروع الصهيونيى للمصالح الألمانية . وجاء هذا واضحا في الرسالة التي كتبها القيصر لقريبه دوق بادن قائلا : * ... ان استيطان الشعب اليهودي الأرض المقدسة سيجلب ازدهارا سريعا للرجل المريض ويسهم في حل المسالة الشرقية . كما ان علينا الا نهمل حقيقة القوة الهائلة التي يمثلها راس المال اليهودي العالمي وحجم ألفواىد التي ستعود علينا من ورا ء ذلك
( David Yital , The. Formative Years, p. 75 ) . وأخيرا تمكن هرتزل من مقابلة القيصر في الاستانة ، حيث قام بعرض مشروعه الاستيطاني في فلسطين شريطة ان يكون تحت الحماية الألمانية ، وقد بين هرتزل للقيصر ان الحركة الصهيونية مستعدة للقيام بإخراج *عناصر الشغب * من فقراء يهود أوروبا وتوطينهم في المحمية الفلسطينية كي يتم ابعادهم عن * الأحزاب الاشتراكية والنشاط الثوري بشكل عام * . كما اكد هرتزل للقيصر ان الحركة الصهيونية ستكون عونًا لالمانيا في امتدادها الاستعماري صوب الشرق . وحينما استفسر القيصر عن مساحة وحدود الأرض التي تطالب بها الحركة الصهيونية كي ينقلها لمسامع السلطان اثناء لقائهما المرتقب،فكان رد هرتزل كما ورد في مذكراته بان مطلب الحركة في هذه المرحلة هو فلسطين بحدودها الجغرافية الحالية ، أما بالنسبة للحدود النهائية للدولة اليهودية التي تسعى الحركة الصهيونية للوصول اليها، فانها ستمتد تدريجيا لتشمل المنطقة الواقعة بين نهري النيل والفرات متضمنة المنطقة الواقعة شمال غرب شبه الجزيرة العربية بما فيها * نافذة على الخليج * ..
ومن الجدير بالذكر ان الوزير المفوض الأمريكي في الاستانة ستراوش ، قام بدور كبير في تيسير نجاح لقاء هرتزل بالقيصر ، وحاول إقناع الأخير بجدوى المشروع الصهيوني وأهميته للعالم الغربي . وقد مارس هذا الدبلوماسي الأمريكي اليهودي ضغوطا شديدة على المسؤولين العثمانيين لانتزاع بعض الامتيازات الخاصة باليهود واهمها : السماح لليهود الأمريكيين بحرية السفر والاقامة في سوريا وفلسطين أسوة بابناء جلدتهم من الأمريكيين المسيحيين الذين كانوا في غالبيتهم من المبشرين النشطين في نشر تيار *المسيحية المتهودة * بين سكان الشرق الأدنى .
ولدى اجتماع القيصر بالسلطان عبدالحميد الثاني تطرق القيصر الى * معاناة اليهود * وضرورة السماح لهم بالاستيطان في فلسطين . ولكنه لمس فتورا ومعارضة من السلطان نتيجة تخوفه وتزايد شكوكه من الحركة الصهيونية ( Herzl , p.799 ) . ولربما كان السلطان يخشى ان تصبح فلسطين *لبنان اخر * وان تقوم ألمانيا بنفس الدور الذي قامت به فرنسا في جبل لبنان . ويبدو ان السلطان كان أيضا على علم ودراية بالطموحات التوسعية للحركة الصهيونية . فكان لا بد له ان يبدي معارضته للمطالب الصهيونية رغم تدخلات وضغوطات ألمانيا وأمريكا المؤيدة والداعمة ء لتلك المطالب ، ومما ساعد السلطان على عدم الاستجابة لتلك الضغوطات وقوف بعض الدول الأوروبية الأخرى الى جانبه ، وخاصة بريطانيا وفرنسا اللتان كانتا تراقبان الوضع بحذر وتعارضان بشدة قيام تحالف بين ألمانيا والحركة الصهيونية واتخاذه ذريعة لبسط النفوذ الألماني على مواقع قريبة من مناطق نفوذهما في لبنان وسورية ( بالنسبة لفرنسا ) او قناة السويس ( بالنسبة لانجلترا ) .
ه ولدى وصول القيصر مدينة القدس في الثاني من نوفمبر عام ١٨٩٨ ، استقبل هرتزل وباقي أعضاء الوفد الصهيوني المرافق له ، وطلب منهم غض النظر حاليا عن المطالبة بإنشاء دولة يهودية في فلسطين ، واكتفى بإعلان تأييده الضمني لأية جهود يقوم بها اليهود مستقبلًا للوصول الى مبتغاهم بما فيها جهودهم المبذولة لتسهيل امر الهجرات اليهودية بشتى الوسائل المتوفرة لديهم او من
خلال الصلاحيات والامتيازات الممنوحة لقناصل الدول الأوروبية في القدس . ومما يثير الحيرة والتساؤل هنا ، هو موقف السلطان العثماني الذي نجده من ناحية يعارض السماح لليهود بالهجرة والاستيطان في فلسطين ، ونجد من ناحية أخرى هجرة استيطانية كبرى تشهدها فلسطين في عهد هذا السلطان العثماني نفسه والتي اطلق عليًها اسم العلية الثانية ( الهجرة الثانية ) حيث امتدت بدءًا من عام ١٩٠٤ واستمرت موجاتها تتتابع طيلة فترة الخمسة أعوام المتبقية من حكم السلطان وظلت نشطة حتى اندلاع شرارة الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤ ، وقدر عدد المهاجرين اليهود الذين وصلوا الى فلسطين خلال تلك الفترة ما بين ٤٠ -٤٥ الف مهاجر ، وكان من بينهم الزعيم الصهيوني هم جرين ( بن غوريون ) الذي وصل فلسطين مهاجرا من بولندا عام ١٩٠٦ . ولعل التفسير الوحيد لهذه الظاهرة هو حالة العجز والضعف التي لحقت بالدولة العثمانية في مراحلها الأخيرة بحيث اصبح السلطان لا يملك القدرة على وضع العديد من قراراته موضع التنفيذ . وهكذا كان حال السلطان العثماني تماما كما هو الحال عليه حاليا في العالمين العربي والإسلامي ، : القول شيء والتنفيذ شيء اخر ! وينطبق على هذا الحال المثل العربي الدارج : ( اسمع كلامك اصدقك وأشوف امورك استعجب ) !!