ما علاقة الشركس بالإمبراطورية العثمانية؟

في حقيقة الأمر، يرتبط تاريخ الشركس بشكل وثيق بتاريخ الإمبراطورية العثمانية التي كانت تمثل أقوى كيان سياسي في أواخر القرون الوسطى وحتى القرون الجديدة. وعلى الرغم من أن الشركس لم يشكلوا قط جزءا من هذه الإمبراطورية، حيث اقتصرت العلاقات على المعاملات السياسية والاقتصادية والأسرية وغيرها من العلاقات، إلا أنهم حظوا بمكانة هامة. وفي هذا الإطار شكل أحفاد الشركس جزء هاما من الطبقة الحاكمة وحققوا نجاحات كبيرة في الخدمة العسكرية والإدارية. وفي هذا السياق ينتمي الجزء الأكبر من الشركس إلى شعب القوقاز وبالتحديد الأبخاز والجورجيون.

في هذا الصدد، يظهر الشركس والأبخاز والجورجيون في ظل الإمبراطورية العثمانية إلى حد ما، على اعتبارهم حلقة موحدة تربطهم علاقات سياسية وثقافية ودينية مع شعوب القوقاز. وقد تم التطرق إلى التضامن العرقي الإقليمي بين المسئولين القوقاز والقادة العسكريين لأول مرة في أعمال المؤرخ التركي المعاصر، متين كونتا. (التضامن العرقي الإقليمي في القرن السابع عشر داخل المؤسسات العثمانية. المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط 1974 ص 237 ).

علاوة على ذلك، تم التطرق إلى تأثير العرقية الإقليمية على العلاقات داخل كتلة الجيش والإدارة في أطروحة، كارل باربر، الذي ناقش من خلالها نظام الحكم العثماني في دمشق في النصف الأول من القرن الثامن عشر. وتم تقسيم العرقية الإقليمية وفقا لباربر إلى مجموعتين: المجموعة الغربية أو البلقانية التي تتألف أساسا من الألبان والبوسنيين، والمجموعة الشرقية أو القوقازية. (كارل باربر الحكم العثماني في دمشق 1708/1758. مطبعة جامعة برينستون 1980. ص 40 .41).

وفي الأثناء، تؤكد قائمة حكام دمشق هذا التقسيم. ففي الفترة الممتدة ما بين سنة 1516 وسنة 1758، تولى الحكم 16 باشا من المجموعة الشرقية (7 شركسيين، و4 من الأبخاز، و4 جورجيين، فضلا عن واحد من التتار المجاورة للقوقاز)، أما المجموعة الغربية فقد عرفت 21 حاكم أو باشا (11 من الألبان، و7 من البوشناق، و2 من الهرسك وواحد كرواتي). ومن المعلوم أن ممثلي المجموعات البلقانية ظهروا بصفة مكثفة في القرن السادس عشر، أما فيما بعد، وتحديدا في سنة 1600 أصبحت الأغلبية في السلطة من القوقازيين.

في المنطقة المجاورة لسوريا مباشرة، كثيرا ما يحال أيضا إلى الباشاوات الشركس على اعتبارهم حكام مقاطعات في إقليم الأناضول. وفي تقرير تابع للسفير الروسي بتركيا، بولغاكوف، بتاريخ 15 من شباط/فبراير سنة 1782، ذكر خبر استقالة باشا من الشركس يدعى، حسن باشا من منصب حاكم سيفاس وذلك إثر الشكاوي التي قدمها السكان المحليين، جراء أعمال الشغب التي شهدتها المحافظة، وذلك وفقا لما جاء في مجلة الحوادث والأخبار القسطنطينية. (مقتطف من ملحق تقرير بولغاكوف ودوبروفين. ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا ص 397).

عقب ذلك، تم تجريد حسن باشا من مهامه كما حرم من الحصانة، في حين تم إرساله إلى منفى في جزيرة سشيو. وفي الأول من أيلول/ سبتمبر سنة 1782، سُلم هذا المنصب لعثمان باشا الذي يعود أصله إلى الشركس. وقد أكد بولغاكوف أن منصب الباشا يعد تمثيلا لدور السلطان في المقاطعات. وفي ظل خوض المعارك مع روسيا، غالبا ما يجد الحاكم إلى جواره أشخاصا على دراية بالشؤون العسكرية ( المصدر الآنف ذكره، ص 762).

من بين الباشاوات الشركسيين الذين استلموا مهام في سوريا تبرز شخصية المعاصر أوليا شلبي، الشهير (الثلث الثاني من القرن السابع عشر) الذي كثيرا ما يظهر اسمه على صفحات كتاب الرحلات. (اسمه الحقيقي غير معروف، وهذا الاسم يعتبر اسمه المستعار، الذي كان قد اتخذه تبجيلا لمرشده، أو إمامه في البلاط، أوليا محمد أفندي).

من السمات المميزة لأوليا شلبي أنه يمثل نموذج الفارس الشركسي المثالي. ففي الواقع، ينحدر شلبي من إحدى قبائل الشركس، فضلا عن أنه كان شخصا يحب المجد، في حين كان شجاعا ومحبا للسلم. ومن المثير للاهتمام أن العديد من العرب الذين حكموا مناطق حماة وحمص وطرابلس السورية، تمت إبادتهم على يد أوليا شلبي، الذي كان عادلا ويهتم بالحقيقة فضلا عن قادة القوات التي تحت إمرته، إلا أنه لم يكن يتقن جيدا اللغة التركية.

لقد كان أوليا شلبي مقاتلا جيدا للغاية، يتقن المبارزة بالسيف، وركوب الخيل. وفي حمص على ساحل نهر العاصي، قام شلبي بتخصيب الصحراء العربية بدماء الأعداء وتكديس جبل كامل من الجثث هناك (حقق العديد من الانتصارات). ويسمى ذلك المكان الآن بتلال "كوتفادج باشا" كناية على اسم شهرته. في الأثناء، يقع قصر شلبي في مدينة أنطاليا، علما وأنه وعلى بوابة القصر علقت سلاسل مشابهة للسلاسل التي تعتمد على اعتبارها أقفالا للحظيرة. ومن هنا جاء المثل القائل بأن البدو العرب مروا من خلال أنطاليا.

في الواقع، انبهر الجميع بمهارات وشجاعة أوليا شلبي التي أظهرها خلال الحملات الصليبية على قونيا ومينغريليا. على العموم، يمكن تفسير انتماء أوليا شلبي إلى قبيلة بالوتكاي، على أنه ينحدر من سلالة العائلة المالكة بمنطقة البالوتوك، أو ينتمي إلى قبيلة تميرغويفسكايه، بشكل عام.

لا يعد جهل الباشاوات الشركسيين باللغة التركية أمرا غريبا. وفي هذا الصدد، هناك العديد من الرسائل التي تبين ذلك والتي تعود بالأساس إلى قسطنطين بازيلي، الذي كان القنصل الروسي في سوريا في أربعينات وخمسينات القرن التاسع عشر. وقد أورد أوليا شلبي، حرفيا، أنه "في هذا الصدد، لا يتكلم العقيد إسماعيل باي، من أصل شركسي، الذي لا يزال يحتفظ بجنسيته يتكلم اللغة التركية بطلاقة". (بازيلي.ك.م الجيش العثماني في سوريا/سوريا ولبنان وفلسطين في وصف الرحالة الروس، الاستعراضات القنصلية والعسكرية للنصف الأول من القرن التاسع عشر).