فيروس كورونا: مكان سكنك قد يسهم في تحديد راتبك في ظل أزمة كوفيد-19
منذ أن اجتاح وباء كورونا المستجد العالم، طرأت تغيرات كبيرة على الطرق التي يعمل بها الموظفون والأماكن التي يزاولون منها أعمالهم. ويفكر الكثير من الموظفين الآن، على سبيل المثال، في الانتقال للعيش في مناطق أخرى بعيدا عن مراكز المدن التي ترتفع فيها تكاليف المعيشة. ففي بولندا على سبيل المثال، تشير الإحصاءات إلى زيادة عمليات البحث عن شقق أكثر رحابة ومنازل في ضواحي المدن منذ بداية الوباء. وفي أستراليا، يرى خبراء العقارات أن تبعات الوباء ستكون أشد وطأة على سوق العقارات في ولاية نيو ساوث ويلز الأغلى والأكثر اكتظاظا بالسكان. وتشير دارسة تحليلية لبيانات الإسكان في الولايات المتحدة إلى أن الطلب على المساكن قد تراجع في المدن والأحياء المكتظة بالسكان، ومرد ذلك إلى إتاحة خيارات العمل عن بعد وإغلاق الكثير من مراكز الرفاهية والاستجمام في المدن بسبب قواعد التباعد الاجتماعي. وذكر 44 في المئة من سكان مدينة نيويورك من أصحاب الدخول المرتفعة، في استطلاع للرأي في شهر يوليو/تموز، أنهم راودتهم فكرة الهجرة إلى ولايات أخرى في الشهور الأربعة السابقة، بسبب تكلفة المعيشة. ولاقى هذا الاقتراح انتقادات، إذا شعر ثلث المشاركين في استطلاع للرأي شمل 7,000 شخص في المملكة المتحدة، أن هذه الخطة مجحفة. وأعلنت منصة الدفع الإلكتروني الأمريكية "سترايب"، أنها ستمنح موظفيها علاوة قدرها 20,000 دولار للهجرة من مدن نيويورك وسان فرانسيسكو وسياتل الباهظة هذا العام، على أن تخفض رواتبهم الأساسية بنسبة 10 في المئة من تاريخ استحقاق الدفعة الأولى من العلاوة. وهذه السياسة ترى الشركة أنها ستوفر عليها مبالغ كبيرة على المدى الطويل. وفي هذه الفترة من عدم التيقن، ستراقب الشركات نتائج السياسات التي تضعها نظيرتها لتختار منها ما يناسبها. لكن العلاقة بين الراتب والموقع الجغرافي تتسم بأنها متشابكة، ولا تحكمها معايير ثابتة، وطالما تسببت في إثارة ضغائن وانقسامات بين الموظفين، وأثرت سلبا على بيئات العمل في الشركات. معيار الإنصاف ثمة مزايا عديدة لتحديد الرواتب وفقا للموقع الجغرافي للموظف، فحصول الموظفين الذين يعيشون في المناطق الأرخص نسبيا على رواتب أقل سيوفر على الشركة مبالغ ضخمة. ويقول ساندرشان سامباث، مدير الأبحاث بشركة "باي سكيل" لبرامج إدارة رواتب الموظفين: "تستحوذ القوى العاملة على النسبة الأكبر من مصروفات الشركة". وهذه المبالغ قد تعيد الشركة استثمارها لأغراض التوسع أو لتحقيق أهدافها في وقت أقصر. وفي المقابل، قد تستفيد الشركات أيضا من رفع رواتب الموظفين لحثهم على الانتقال للعيش بالقرب من مقراتها في المدن الكبرى، فستحافظ بذلك على التعاون بين الموظفين في الشركة وستمارس قدرا أكبر من الرقابة والإشراف، وستقل دوافع الموظفين للهجرة إلى مناطق بعيدة. وهناك أيضا عيوب للحالتين، إذ يقال إن المبالغ التي ستوفرها الشركة لا تكفي لتعويض فقدان الانسجام بين الموظفين. وما دام الموظفون يؤدون نفس المهام، فإن الموظف الذي يحصل على راتب أقل من زميله الذي يعمل في مقر الشركة، قد يشعر بالضغينة. لكن في المقابل قد يشعر الموظفون الذين يعيشون في المناطق باهظة الثمن بالضيق إذا تقاضوا نفس الراتب الذي يتقاضاه زملاؤهم في المناطق الأرخص نسبيا. وقد رأيت بنفسي موظفين في لندن يحتجون بسبب مساواتهم في الرواتب مع أقرانهم في إدنبره. وتطبق منظمة "ووتر إيد" الخيرية نظاما يضمن المساواة في توزيع الرواتب بين الموظفين، إذ تقدر الرواتب بحسب القرب من العاصمة سواء في بريطانيا أو مدغشقر. وأجرى إيشبيل هيرمان، من كلية إدارة الأعمال بجامعة إدنبره، أبحاثا عن محاولات المنظمات التي لا تهدف للربح لتحقيق المساواة بين الموظفين في توزيع الرواتب. وخلص بحثه إلى أن المنظمات التي تحدد الرواتب بحسب الموقع الجغرافي للموظفين وليس طبيعة المهام التي يضطلعون بها، تضعف الروح المعنوية للموظفين الذين يتقاضون رواتب مرتفعة ومنخفضة على السواء. ويقول هيرمان: "إن هذه الأنظمة تقلل الرضا الوظيفي والحماس للعمل، وتزيد رغبة الموظفين في ترك المؤسسة". وكل هذه العوامل تسهم حتما في تقليل الإنتاجية وزيادة معدل استبدال الموظفين. وربما يسهم وضع سياسية لتحقيق المساواة في توزيع الأجور في الحد من الخلافات التي قد تثار بسبب تفاوت الأجور بين موظفين يؤدون نفس المهام. رغم أنها ليس من المرجح أن ترضي الجميع. تداعيات سياسات المكافآت قد يكون لقرارات الشركات بتعديل الرواتب على حسب الموقع الجغرافي تداعيات واسعة النطاق، فقد تؤثر على سبيل المثال على قطاع خدمات نقل الأثاث. ففي الولايات المتحدة، أصبحت أسعار نقل الأثاث من ولاية كاليفورنيا أعلى من أسعار النقل إليها بخمس مرات، وهذا يعكس ارتفاع الطلب من السكان الذين يريدون مغادرة هذه الولاية الباهظة. والأهم من ذلك، أن توحيد رواتب بعض الموظفين الذين يتقلدون مناصب معينة، بغض النظر عن موقعهم الجغرافي، سيسهم في تحقيق التوزيع المتكافئ للكفاءات في مختلف أنحاء البلاد. وأشارت دراسات تحليلية إلى أن وجود العمال أصحاب المهارات في المدن الصغيرة سيعود بالنفع على الاقتصاد الأمريكي بشكل عام، بتخفيف الازدحام في بعض المناطق وتوزيع الدخل الضريبي وزيادة خيارات الإنفاق وتحسين الخدمات الاجتماعية. وقد يؤدي تحديد الرواتب وفقا للموقع الجغرافي للموظف إلى زيادة التنافس بين الشركات وستكون الغلبة للشركات الأكبر حجما والقادرة على دفع رواتب أعلى. فإن ربط الراتب بالعنوان السكني، قد يجعل الموظف أكثر استعدادا للانتقال لشركات منافسة تتغاضى عن موقعه الجغرافي عند تحديد الراتب ليتساوى مع نظرائه في المقر الرئيسي. وهذا ينطبق على المهن المطلوبة كمهندسي البرمجيات. ويرى أمارجيت كاور، المحامي في سنغافورة أن وضع الموقع الجغرافي للموظف في الاعتبار عند تحديد الراتب سيؤدي إلى توسيع الفجوة الاقتصادية بين المدن والأرياف أو بين المدن وبعضها. وسيجد سكان المناطق الأقل تكلفة صعوبة في إدخار المال الكافي للانتقال للمناطق الأغلى من حيث تكاليف المعيشة. ويقول كاور: "إذا عاقبت الموظفين لأنهم يعيشون في مناطق مناسبة لدخلهم، ولا سيما في المناطق الفقيرة، فأنت ستؤدي إلى توسيع هذه الفجوة". وفي الوقت نفسه، قد يكون من الضروري تعديل الرواتب نسبيا بحسب مستويات الرواتب في الموقع الجغرافي للموظف. فإن دفع رواتب مبالغ فيها بالمقاييس المحلية، رغم أنها معقولة بالمقاييس الدولية، قد يضر الأسواق المحلية ويؤدي إلى رفع الأسعار. ويضرب هيرمان مثالا ببنوم بنه، حيث كان يعيش، فقد أدى ذلك إلى ظهور اقتصادين اثنين في مدينة واحدة: اقتصاد المغتربين، والاقتصاد المحلي، لأن المغتربين كانوا يتقاضون رواتب لا تتناسب مع المعايير المحلية. حل وسط غير أن وضع سياسة واضحة لربط الراتب بمحل السكن ليس بالأمر الهين. ويقول سامباث: "إن تكاليف المعيشة ليست العامل الوحيد الذي يؤخذ في الاعتبار عند تحديد رواتب الموظفين". فهناك أيضا عوامل أخرى، مثل المستوى التعليمي والتخصص والمنصب وسنوات الخبرة والطلب على وظيفة محددة في موقع معين. ويرى سامباث أنه بخلاف القوة الشرائية، ينبغي أيضا دراسة سلوكيات المنافسين عند تحديد الرواتب. وثمة عامل آخر يؤثر على القدرة على الإنفاق وهو حجم العبء الضريبي في النطاق الجغرافي. وعقدت شركة "باي سكيل" مقارنة بين التوزيع المتكافئ والمنصف للأجور والأجور التنافسية. فبينما ينطوي التوزيع المتكافئ على توحيد رواتب الموظفين الذين يؤدون نفس الوظيفة، فإن التوزيع المنصف يأخذ في الحسبان خبرات الموظفين واحتياجاتهم المختلفة ودرجة صعوبة الوظيفة. أما الرواتب التنافسية فتراعي الشركة عند تحديدها الحفاظ على الموظفين واستقطابهم. وتحدد شركة "ميورال" المتخصصة في أدوات بيئات العمل الرقمية، الرواتب بحسب المنطقة الجغرافية، فتقسّم الشركة الولايات المتحدة إلى ثلاث مناطق، بحيث يحصل الموظفون على أعلى الأجور في منطقة سان فرانسيسكو، حيث مقر الشركة، ونيويورك. ويحصل الموظفون في كاليفورنيا خارج سان فرانسيسكو على رواتب أقل بنسبة خمسة في المئة، بينما يحصل نظرائهم في سائر الولايات، مثل أتلانتا على رواتب أقل بنسبة 10 في المئة. وتعيد الشركة النظر في سلم الرواتب كل ستة أشهر. وتقول أدريانا روشيه، رئيسة الموارد البشرية في الشركة، إن الموظف الذي يغادر سان فرانيسسكو دون إطلاع الشركة، قد يتمكن من الحفاظ على راتبه المرتفع في المنطقة الأرخص التي انتقل إليها. لكن نجاح هذا النظام يتوقف على وجود قدر من الثقة المتبادلة بين الموظفين. ولا تتوقع روشيه أن يستمر نزوح الموظفين من المدن الباهظة للأبد، حتى مدينة سان فرانسيسكو، التي أصبحت تكاليف المعيشة فيها باهظة إلى حد يكاد لا يطاق. فهذه المدينة لا تزال مركزا للتكنولوجيا وتتوفر فيها الكثير من الفرص. المستقبل طويل الأمد وتؤكد روشيه أن هذه الفترة انتقالية، وينبغي ألا تتخذ الشركات فيها قرارات نهائية. وتقول إن الكثيرين من الموظفين ينتقلون من سان فرانسيسكو مؤقتا للعيش مع والديهم لمساعدتهم في رعاية أطفالهم، لكنهم لا يزال لديهم التزامات عديدة في سان فرانسيسكو. وترى أنه من الأفضل أن تتروى الشركات ولا تعيد النظر في أجور موظفيها ريثما تستقر الأمور إلى حد ما. وفي جميع الأحوال، تشدد روشيه على أهمية التغيير التدريجي، وإخطار الموظفين مسبقا بالتغييرات مشفوعة بالأسباب التي دفعت الشركة لإجرائها. ويرى هيرمان أن تحقيق العدالة بين الموظفين مرهون بالشفافية. ويقول: "قد يوافق الموظفون المحليون على التفاوت في الرواتب والمزايا بينهم وبين نظرائهم في الدول الأخرى، لكنهم يعترضون على السرية والكتمان". وبما أنه من المستحيل وضع سياسة رواتب ترضي الجميع، فإن توفر المعلومات قد يخفف على الأقل من التوتر بين الموظفين. بي بي سي