وزارة الصحة.. مراوحة بين هدم وبناء لسنوات طوال!
كتب حاتم الازرعي -
تعود صلتي بوزارة الصحة إلى منتصف ثمانينات القرن الماضي حين كلفت خلال عملي مندوبا صحفيا في جريدة الدستور اليومية بتغطية الشؤون الصحية ثم انتقلت للعمل فيها من عام ١٩٨٨ لغاية ٢٠١٩ .
وقد أتاحت لي هذه الصلة الطويلة من الزمن أن أطل على واقع الوزارة مراقبا صحفيا من خارجها لفترة غير قصيرة ومتابعا لصيقا لمجريات الأمور داخل مفاصلها كافة في الميدان ومركز الوزارة على حد سواء، فضلا عن الالمام بتفاصيل العلاقات الداخلية بين الاطر التنظيمية افقيا وعاموديا والخارجية مع المؤسسات الصحية المختلفة بما فيها النقابات المهنية وغيرها من الهيئات والمنظمات المحلية والدولية وكذلك الغوص بعمق في جدلية العلاقة القائمة مع الإعلام وجمهور المواطنين الذين يتلقون خدمات الوزارة.
وواكبت مسيرة الوزارة التي ظلت طيلة السنوات الماضية تراوح بين هدم وبناء تبعا لتقلب الوزراء عليها دون أن تصل حالة من الاستقرار المؤسسي الراسخ حتى يومنا ولعل ذلك من أخطر ما يواجه الوزارة ويعرضها لهزات عنيفة كلما واجهت أزمة واعتقد لن يكون وباء كورونا آخرها.
ومن نافلة القول ان وزارة الصحة من أهم لا بل انها اهم مؤسسات الدولة بحكم دورها ومهامها والقوانين الناظمة لعملها، واتساع رقعة ولايتها الصحية جغرافيا، وعدد المستشفيات والمراكز الصحية التابعة لها والتي تشرف عليها وتراقبها بحكم القوانين السارية، فضلا عن حجم الكوادر الطبية والتمريضية والفنية والإدارية العاملة فيها.
وللحقيقة فقد شهدت الوزارة في العديد من مراحل مسيرتها حراكا نهضويا نشطا حاول نفخ الروح في " المارد النائم" كما كان يصفها الوزير الأسبق الدكتور عبداللطيف وريكات، ودون ان اغفل محاولات وزراء آخرين إخراج الوزارة من غرفة الإنعاش اشير إلى مرحلة لم تكتمل هي تلك التي تسلم خلالها الدكتور غازي الزبن حقيبة " الصحة" لاهميتها في السياق التاريخي لمسيرة تطور الوزارة ومراوحتها بين الهدم والبناء.
وضع الدكتور الزبن - وهو المختص في الجراحة التجميلية - أصبعه على جراح الوزارة النازفة وشرع في علاجها بتواصل مباشر منفتح على النقابات المهنية وفي مقدمتها نقابة الأطباء، ووضع برنامجا شموليا لسد النقص في الأطباء ولا سيما الاختصاصات الطبية التي تعاني الوزارة من نقص حاد فيها، وأولى كوادرها عناية خاصة واتخذ قرارات حاسمة لتحسين دخولهم برفع قيمة نقاط الحوافز الممنوحة لهم وأسس قواعد لاعادة بناء الوزارة وترميمها وايقاظ المارد النائم، لكن القدر لم يسعفه ليواصل البناء إذ خرج من الوزارة ليدخلها خلفا له الدكتور سعد جابر.
ومنذ البداية، لم يغب عن ذهن المراقب للشان الصحي مدى خطورة النهج في عهد جابر الذي أفرغ الوزارة من كفاءاتها وشلّ قدراتها وعطل امكاناتها حين شرع وفي ظل النقص الحاد بالكوادر باحالات واسعة على التقاعد ولا سيما أطباء الاختصاص من ذوي الخبرة والكفاءة وبجرة قلم أحال منهم اكثر من ثلاثين طبيبا أخصائيا هم خيرة الخيرة فضلا عن إحالة اعداد كبيرة من الممرضين والممرضات دون أن يلتفت إلى الأصوات المحذرة من خطورة ذلك.
ودخلت الوزارة نفقا مظلما، وبدأت مستشفياتها ومراكزها الصحية تئن تحت وطأة النقص الحاد في الكوادر الطبية والتمريضية والفنية وغيرها من المهن الحيوية، وتراجع مستوى الخدمة الطبية المقدمة إلى أدنى مستوى وأخذت تتصاعد شكاوى المواطنين في أنحاء المملكة كافة من طوابير الانتظار أمام العيادات والمواعيد البعيدة للعمليات والإجراءات الطبية المختلفة.
وفجأة، وفي ظل حالة الهدم والتراجع العنيف، يظهر وباء كورونا ويتفشى في المجتمع، ليعري المشهد ونكتشف الحقيقة المرة ونتجرعها سمّا زعافا، فالنظام الصحي في خطر ومهدد بالانهيار بسب فشل الحكومة في التحضير والاستعداد وبناء الجاهزية.
ونقف اليوم على مفترق طرق، هل تستمر عملية الهدم في وزارة الصحة وينهار نظامنا الصحي، ام يتلقف وزير الصحة الدكتور نذير عبيدات طوق النجاة المتمثل في كتاب التكليف السامي لحكومة الدكتور بشر الخصاونه بما شمله من مضامين تتعلق بالشان الصحي.
أعان الله الدكتور عبيدات، فقد ورث عن سابقه حملا ثقيلا وبناء متصدعا متهالكا، لكن أمامه فرصة ثمينه إن اغتنمها فرأس الهرم في الدولة الاردنية رسم في كتاب التكليف خارطة الطريق للنجاة وحدد معالمها بوضوح تام وأعطى شارة البدء لاعادة البناء انطلاقا من أن " صحة المواطن أولوية قصوى" كما جاء في كتاب التكليف.
وللحقيقة فإن انشاء المركز الوطني للاوبئة والأمراض السارية وتكليف شخصية أكاديمية مهنية مرموقه وازنة كالدكتور وائل الهياجنة بملف كورونا يمنح الدكتور عبيدات فرصة ثمينة للتفرغ لاعادة البناء، "باتخاذ الإجراءات لتحسين النظام الصحي ورفع جاهزيته وقدرته، ورفع الطاقة الاستيعابية للمستشفيات واقسام العناية المركزة بزيادة اسرتها، وتخصيص مراكز لإجراء الفحوصات، والتوسع في توفير المختبرات" كما جاء في كتاب التكليف.
ومن واقع الخبرة الطويلة في وزارة الصحة فإن إعادة بناءها تتطلب تعزيزها بالكوادر الطبية والتمريضية بالدرجة الولى وتوفير الاختصاصات، كما ونوعا، فضلا عن تخليصها من الروتين والبيروقاطية والادارات الرخوة غير المؤهلة التي حلت في المواقع المتقدمة عبر الواسطة والمحسوبة والشللية المقيتة.
واميل إلى الاعتقاد بأن الدكتور نذير عبيدات قادر على إعادة بناء الوزارة ففيها من المقومات ولديها من الكفاءات والقدرات والامكانات ما يرجح الفرصة الاخيرة للخلاص من مراوحة وزارة الصحة لسنوات طويلة بين الهدم والبناء.