هجرة الشركس إلى الأردن
بدأت هجرة الشركس من القفقاس لأول مرة عام 1858 م بشكل متقطـِّـع ، ولكنها تزايدت خلال الفترة الواقعة بين عامي 1864 – 1878 م ، وقد تركوا وطنهم حماية لدينهم أمام محاولات القمع والإبادة ، وتحمَّـلوا المشاق والصعاب في هذا السبيل ، وارتضوا بأن يستبدلوا بلادهم القفقاسية الخضراء الجميلة وجبالها الشاهقة وغاباتها الكثيفة ومياهها الوفيرة بوطنهم الثاني الأردن ، وآثروا العيش في الكهوف والوديان ردحا من الزمان في سبيل دينهم وإيمانهم بعد ان كانوا يعيشون في رغد من العيش الوفير في بلادهم الخيرة المعطاء ، ولم يكن في الأردن في ذلك الحين مدينة اسمها عمان ، وكل ما كان هناك بقايا إطلال رومانية لمدينة عمُّـون التاريخية ، وأبرز هذه الأطلال المدرج الروماني الشهير ، المعروف باسم ( فيلادلفيا ) والحمامات الرومانية التي ما زالت آثارها باقية في سقف السيل ، والقلعة التي تشرف على خمسة أودية تتشكل منها الآن العاصمة عمـَّـان ، هذا بالإضافة إلى جامع قديم مهجور يعود في تاريخه إلى عهد الأمويين ولا صلاة تقام فيه ، وبرج عال أشبه بالمأذنة ، وتقول رواية أن الجامع والبرج من آثار البيزنطيين ، وتـمَّ تحويلهما في العهد الإسلامي إلى مسجد ومئذنة ، ثم عفا عليهما الزمن إلى أن وصل المهاجرون الشركس فقاموا ببناء مسجد مكان الجامع القديم المهجور ، وحوَّلوا البرج إلى مئذنة .
ويذكر كتاب ( الشركس ) أن قبيلة الشابسوغ كانت أول قبيلة شركسية وصلوا إلى عمان سنة 1868 عن طريق الشام قادمين من تركيا ، وعندما حطــُّـوا رحالهم في عمان ، لم يكونوا يحملون معهم شيئا إلا ما يحمله المهاجر من ألبسة ضرورية وبعض الحاجات البسيطة كالأمتعة والفراش والأسلحة التي تزين عادة اللباس القومي الشركسي ، كالخناجر (القامه) والسيوف والمدى ، وهي أسلحة تلازم الشركس ملازمة الظل للإنسان ، إذ أنها جزء مكمل للباس القومي ، وسكن المهاجرون في أروقة المدرج الروماني والكهوف الكثيرة المتوفرة في أودية عمان ، وأخذوا يفكـِّـرون في كيفية العيش في هذا الوادي الذي ليس فيه إلا سيل المياه التي تنبع من رأس العين متجهة إلى الشرق ، وكان على ضفتي السيل أشجار كثيفة تكثر فيها الحيوانات الكثيرة ، وتوفي الكثير من أطفال المهاجرين بالملاريا والتيفوئيد والحصبة ، وبقي المهاجرون من الشابسوغ على هذه الحالة المضنية إلى أن بدأت تفد أفواج المهاجرين الآخرين من القبرطاي والبزادوغ إلى عمان تباعا ، وعلى فترات متقطعة ، وشدَّ وصول المهاجرين الجدد من عزائم المهاجرين الأوائل ، وبدأوا في تنظيم حياتهم ومعيشتهم ، وأخذوا يشقون الأرض ويزرعونها بمحارث من الخشب من صنع أيديهم ، كما صنعوا أدوات حصد المزروعات وجنيها ودرسها ، وكانت كلها من الخشب .
وكان آخر فوج من المهاجرين الشركس قد وصل إلى عمان سنة 1900 عن طريق الشام وكانوا من قبائل الجلاخستنيه والقبرطاي وتمَّ نقلهم من محطة المزيريب في سوريا ، وكان خط السكة الحديدية ينتهي هناك في ذلك الوقت ، وكان قائد الدرك العام في سوريا في ذلك الحين خسروف باشا قد أمر باتخاذ المحطة المذكورة مركزا لتجميع المهاجرين الشركس الذين كانوا يفدون من تركيا إلى الشام عن طريق بيروت أو حلب ، تمهيدا لنقلهم إلى الأردن ، للالتحاق بإخوانهم الذين سبقوهم إلى هناك ، وقد تمَّ نقلهم على الجمال والبغال على شكل قوافل بإشراف خسروف باشا نفسه ، وساعده في ذلك ميرزا باشا الذي كان يعمل في الشام مع خسروف باشا ، وتولت لجنة خاصة برئاسة ميرزا باشا ومحمد أفندي حبجوقه إسكان هؤلاء في حي المهاجرين ، بعد ان عاشوا فترة من الوقت في زمهرير الشتاء وحر الصيف في المنطقة المحيطة برأس العين في الخيام والأكشاك ، وكانت الحكومة العثمانية التي أشرفت على إيصال المهاجرين الشركس إلى الأردن تعاني من صعوبات كثيرة في حفظ الأمن وجباية الضرائب ، ولذلك راعت الحكومة العثمانية في تحديد أماكن استيطان المهاجرين الشركس الإعتبارات الأمنية التي تساعدها في تذليل المصاعب التي كانت تجابهها في المنطقة ، بحيث تصبح أماكن القرى الشركسية أشبه بحزام أمني يضمن للحكومة العثمانية حفظ الأمن وجباية الضرائب والسيطرة على الغزوات والغارات التي كانت تكثر في تلك المرحلة ، فجاءت أماكن استيطان الشركس على الشكل التالي حول مدينة عمان من جميع نواحيها :
1 ) عمان ، وضمَّت معظم المهاجرين من قبيلتي الشابسوغ والقبرطاي والقليل من الأبزاخ .
2 ) وادي السير وضمَّت معظم المهاجرين من قبيلتي الشابسوغ والبزادوغ والأبزاخ ، وكان يكثر في المنطقة عشائر عبـَّـاد والمناصير .
3 ) صويلح ، وضمَّت معظم المهاجرين من القبرطاي والشيشان ، وكان يكثر في المنطقة عشائرالعدوان والعشائر التابعة لها أو المتحالفة معها .
4 ) جرش ، وضمَّت معظم المهاجرين من القبرطاي ، وكان يكثر في المنطقة عشائر بني حسن التي تمتد أراضيها ومضاربها شرقا حتى مدينتي المفرق والزرقاء ، ويذكر كتاب ( جرش ... تاريخها وحضارتها ) لمؤلفه الدكتور أسامة يوسف شهاب العضيبات أن الشركس الذين استقرُّوا في جرش بنوا في عام 1298 هجرية ــ 1878 م مسجد جرش العثماني الذي لا يزال يعرف بمسجد الشركس في وسط جرش ، وينقل شهاب عن الرحالة روبنسون الذي زار جرش في عام 1890 م أن الشراكسة الذين كانوا حوالي ألف نسمة بنوا منازلهم بعيدا عن آثار جرش الرومانية ، وينقل عن الرحالة وليم ليبي والرحالة فرانكلين هوسكين اللذين زارا جرش في عام 1902 م قولهما إن جرش كانت قرية شركسية .
5 ) الرصيفة ، وضمَّت معظم المهاجرين من القبرطاي ، وكان يكثر في المنطقة عشائر الدعجة .
6 ) الزرقاء ، وضمَّت معظم المهاجرين من الشيشان الذين وصلوا إلى الأردن عام 1902 – 1905 م مع شيشان صويلح وأفراد قلائل من القبرطاي ، وكان يكثر في المنطقة عشائر بني حسن .
7 ) ناعور ، وضمَّت معظم المهاجرين من الأبزاخ والبزادوغ وقليل من القبرطاي والشابسوغ ، وكان يكثر في المنطقة عشائر العجارمة وغيرها .
وبعد هذا التوطين الأمني ، لجأت الحكومة العثمانية إلى تجنيد الشركس والشيشان في صفوف قوات الدرك والفرسان ، وفي غضون ذلك وصل ميرزا باشا من بيروت ، وكان مسؤولا عن الأمن في بيروت وصيدا وصور ، وقام بتشكيل فيلق الفرسان الشركس ، وكان من مهام هذا الفيلق صيانة الخط الحديدي من عمان إلى تبوك ، وفي هذه الأثناء كلف ميرزا باشا بتوزيع الأراضي لجميع سكان القرى الشركسية من المهاجرين .
الملك المؤسِّس ينقذ عشرات الشراكسة من التسليم للروس
في عام 1948 م ، وفي غمرة انشغال الحكومة الأردنية في استقبال اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة الفلسطينية التي أسفرت عن نزوح أكثر من مليون لاجيء عن فلسطين ولجوئهم إلى البلاد العربية ، وصل إلى عمان شاب شركسي يدعى عبد الكريم شوابزوقه قادما من روما ، وقابل وزير الداخلية في ذلك الحين السيد عباس باشا ميرزا ، وطلب منه التوسط لمثوله بين يدي الملك المؤسِّـس الشهيد عبدالله الأول بن الحسين ، وشرح لجلالته وجود عدد من الشركس لاجئين في روما في أعقاب انهزام ألمانيا الهتلرية ، وهم معرَّضون لتسليمهم إلى روسيا السوفياتية بموجب اتفاقية ( يالطه ) ، باعتبارهم رعايا سوفياتيين انضموا إلى قوات ألمانيا عند احتلالها لبلاد القفقاس في الحرب العالمية الثانية ، وكان هؤلاء قد لجأوا إلى الفاتيكان ليبقوا في حماية قداسة البابا ، الذي رحب بهم ، وأبى ان يشملهم تبادل الأسرى بين الحلفاء وروسيا السوفياتية ، وقد أمضوا في رعاية قداسته فترة ليست بقليلة والتمس السيد شوا بزوقه من الملك المؤسِّـس قبول هؤلاء الشركس المسلمين كرعايا أردنيين ، أسوة بأخوانهم الموجودين في الأردن ، فاستجاب الملك المؤسِّـس وأمر فورا باتخاذ الإجراءات الكفيلة بترحيلهم من روما إلى الأردن ، كما صدرت الأوامر بصرف تذاكر مرور لهم ، لكن الشركس سرعان ما جمعوا المال اللازم ليوفروا على الحكومة نفقات الترحيل ، واستقبل الأردن الفوج الأول من هؤلاء المهاجرين الشركس ( البزادوغ ) وعددهم 38 بين رجل وامرأة وطفل ، وبعد مرور فترة أخرى وصل إلى عمان جانجري حبجوقة من روما للغاية ذاتها ، والتمس قبول الفوج الثاني وعددهم ( 86 ) شخصا من المهاجرين القبرطاي من الملك المؤسِّـس ، فأجيب الآخر إلى طلبه وصدر الأمر باستقبالهم .