في قريتنــا نائب
حمَلت الساعاتُ الأولى من فَجر الأربعاء ولادة حُلم طالما قلّبتهُ سنينَ القرية في أحشائها ، وما استوى ، حلمٌ حملته الشَّمسُ منذ سنين عجافٍ غابرة ، حلمٌ باتَ يراوحُ رحمَ الحياة ، ويطحنُ سنابلَ الصبرِ وهناً على وهن ، ويستنبتُ الأملَ والتفاؤلَ على أفنان النفوس الناضجة ، وجريد العقولِ البالية ؛ تلك الساعاتُ كانت فاتحة الخُروج من غياهب الحُلمِ الصَّعب المتلبّدِ في القلـوبِ ، إلى حقيقة الواقع المُنتظــر على جَنباتِ تلك القريـة الوادعة ، ومحيطها الملتف كالسّوار حول المعصم ، وهو ما يُعرف لدى الغالبية بـ "منطقة العَروضْ".
تتنفّسُ الشَّمسُ بعد غروبٍ جائرِ حزين على روابي الهاماتِ الشامخةِ ، وبعد شتاتٍ متمرِّدٍ مُمزّقٍ داعبته أنامل الرّيح العنيدة منذُ حين ، وبعدَ ليالٍ طالَ اختباؤها بين فوانيسِ الإشراقِ ومشاعل النُّور ، وبعد اندثارِ كراتٍ من الثَّلجِ ، كانت تتدحرجُ إليها عبر نفوسٍ بائدة أفضى بعضها إلى ما أفضى إليه قصده ونواياهُ ودسائسه ، واستحوذ بعضها الآخر على مهاراتِ الخبث التي خلَّفها ذلك الإرث.
تمدُّ شمسُ عَروضنا بِساط ضيائها الأبلجُ على وزنٍ وقافيةٍ متناغمة ، وتبذرُ حباتَ غلالها الخيّرة ، لتغتسلَ من جديد بذاتِ التُّراب ، وتتوضّأ بندى الدَّحنونِ والزَّعترِ والدالياتِ الخُضر ؛ ترتحلُ في دورتها القاسية من عشوائية الإفلات إلى جاذبية الثبات ، ومن وكرِ الثعالب الحمقاء ودُهاة العُزلة والتشرذم ، التي تسهرُ على خلق المعيقات ودسِّ الأشواك ، وزرعها في كلِّ بادرة خير وبارقة أملٍ للم الشَّمل بدعوى الصلاح والاصلاح ، ترتحلُ بإصرارٍ وتحدٍّ وقلبٍ واحد إلى صفِّ متراصٍّ متوحد بعدما فهمت حقيقة اللعبة ، اللعبة التي امتطى جيادها عباقرةٌ في فنون الفُرقة والتباعد وتأليب القوم على القوم ؛ ورغم كل هذا فقد مرُّت الشمسُ على تلك الحصى المبعثرة في جيوب الطرقات المتجــرِّدة من مبادئ الخير ومشاربه ، لتنفثَ أنفاسَ الحُبِّ والإخاءِ والُّلحمة.
بانت خيوطُ الفجرِ من بين سرايا الأحلام المُتراكمة ، ولم تكن تزالُ بعضُ جيادٍ عرجاء تقدحُ بشرورها هنا وهناك ، وما لبثت تستوي على عودها وتحقق مبتغاها حتى لحاها الله وطحاها ذوي القلوب الصّادقة ، بانَ ذلك الفجر الذي كنَّا نحسبه لبضعِ ساعاتٍ بعيداً ، وبانَ معه حمّالة الضّغينة ومُروِّجو المكائد ، حتى تساقطَت أقنعة السوء عن الوجوه الشاحبة ؛ وما كادَ هذا الفجرُ ينفُضُ عن عتباتِ البيوتِ ذلك القلقُ الدّاجي ، حتى تلألأت أوسمة الفرح ، وأنجب هذا المحيطُ "العروض" قبَّة الوطن على سفوحه بكلِّ جلَدٍ وحزمٍ ومضاء ، وامتزجت زغاريدُ الهضابِ المسترخية على تلك القمة الشّماء بماء الأردن الطّهور ؛ تلك هي نكهةُ الانتصار على الانتصار ، ورائحةُ العنفوان والفخــار المُرتقب ، وذوائبُ النهار تميدُ ألقاً وبهاءً على ساحاتِ محيطنا وجباله ؛ لحظاتٌ تحملُ في عبقها نشوةُ وطنٍ وغُرّةُ حمىً وعزُّ رايةٍ خافقةٍ في الأرجاء والأنحاء ، لحظاتٌ تُجدّدُ معزوفة الهمم العالية وتُحييها.
هُنا تختالُ روابينا مهابةً وابتهاجاً ، وقد أهدت لوطنها عباءةً أردنيةً مطرّزةً بإرثِ جمٍّ مليء بكلِّ ما هو نبيل ، قوامه ذلك البيتُ المجبولِ على طيبِ الخُلق والكرامة والكرم ولطفِ المعشر ، بيت أبي راكان ، لتكن سطراً أخضراً يُضافُ الى حكايات وانجازات الوطن الأغلى ، وساعداً أميناً ينطلقُ من رحمِ الأهل والأبناءِ والأحياء والقُرى ، وصوتَ الحق والحقيقة الذي يقتربُ من آمالهم وهمومهم ، والنّاطق الرسمي الذي يترجم تطلّعاتهم ، ويعكسُ صورة الواقع الذي يكابدون من أجل حياكة واقعٍ أفضلٍ لهم ولأبناء الوطن عامةً.
هُنا وبين وجهي الزَّمان المُرِّ ، الماضي والحاضر ، يبثّونَ آلامهم الدفينة وأحزانهم المكينة ، ويبتسمون ما شاؤوا أن يبتسموا ، لا لأنهم فارقوا ذلك العناء الفاحش وحزام الفقر المجدول على بطونهم ، ولا لأنهم علَّقوا حسراتهم على جدار ينقضُّ منذُ عمر ، ولا لأنهم قد طلعوا من وحل العيش الكئيب والبطالة المتفشية وأوجاع قفزات الأسعار ، التي تبيت على حالٍ وتصحو على حال ، ولا لأنهم يرون فلذات أكبادهم يُعانقون بفضاضةٍ سيلاً من الجهل العارم الفيّاضِ في العقول والأرواح ، حينما باتت المدرسة شيئاً من الزمن الجميل ؛ إنّهم يبتسمون بكلِّ ثقةٍ ويفرحون من عميق خوافقهم لأنهم وثقوا بكلِّ جوارحهم ، ووجدوا من أنفسهم من يسعى لإدخال موجة الفرح إلى صدورهم ، ويعيد لهم ذلك الأمل الصّامت البعيد ، فتراهم يرون ابنتهم النائب عيناً أخرى لهم ، وبصيصاً من نورٍ وضياء ، يسيرُ بهم إلى تعظيم أحلامهم قليلاً ، حتّى لو كان ذلك ضرباً من الخيال.
أختي نائب الوطن الكريمة .. الأستاذة إسلام صالح الطباشات
سبقتني كلماتي التي شاحت عن وقار الفوز ببعض ضجيج الغضب الذي تأسّيتُ كثيراً من وجوده هنا وهناك ، فتأخرت باقاتُ تهانيّ إليكِ أختاً ونائب وطن ، أرجو لها سداد المسعى ونجاعة المقصد ورفعة وسمو المغزى ، سائلاً المولى جلَّ في علاه أن يعينك عون الصّادقين ، ويثبِّتك على العزم والعزيمة والرّشاد ، وأنتِ تحملين أمانة الوطن بيدٍ وثقل المسؤولية وأداء الواجب تجاه مجتمعك باليد الأخرى.
إنَّ مجتمعنا وإن قلَّت موارده وجفّت منابعُ رزقه واكتوى بنار الفقر والجوع والحرمان ، وتبعات الظروف الصحية والاقتصادية ، التي يتلقى ضرباتها المرتدة كل يوم ؛ إلا أنه شعبٌ على قدرٍ من المسؤولية والانتماء ، وغنيٌّ بما أغناه الله ووهبه ، ويعلمُ أنّك كما غيرك لا تملكين عصىً سحرية ، لنقله من بؤرة العناء إلى قمة الثراء ، لكنه مؤمنٌ بصوته الذي لن يتجاوز أو يتأخر عنه أبداً ؛ لهذا فإنَّه يستحقُّ منك الأفضل مثلما يستحقُّ منك الوطن الأفضل.
وفقك الله ورعاك