أضواء على سيرة الشهيد وصفي التل: (3)
(1)
باستقالة حكومة بهجت التلهوني الثانية في 27 كانون الثاني 1962، استقر رأي الملك حسين على إحداث نقلة جوهرية في قيادة السلطة التنفيذية، فوجه رسالة إلى وصفي التل يكلفه فيها بتشكيل حكومة جديدة منحه فيها الضوء الأخضر لاختيار أي وزير يراه مناسبا، بعد أن رأى فيه نموذجا لرجل الدولة غير المعهود، فتوسم فيه أن يكون رئيس الوزراء المنشود، الذي يفك شبكة الأزمات التي واجهت المملكة في نهاية الخمسينات، وأن يضع الأردن على أعتاب مرحلة جديدة تتسم بتحقيق التقدم في الشؤون الداخلية، وتطوير الدولة بشكل عام. وهو ما تضمنه كتاب التكليف بالإشارة إلى جعل الأردن "بلدا نموذجيا”.
آمن الحسين ورئيس وزرائه بإمكانية جعل الأردن قصة نجاح عبر التطوير الاقتصادي، وتأمين حياة أفضل، وبنهج يهدف للوصول للاكتفاء الذاتي، وإعطاء الدولة شخصية مستقلة، وذلك بتشكيل مجلس وزراء من أفراد أكفياء يتصفون بقدر من الثقافة والوعي.
(2)
وصل وصفي إلى الحكم من خارج النادي السياسي التقليدي الذي ظل يحتكر السلطة التنفيذية طوال نصف قرن، فتقبله الوسط السياسي بكثير من التشكيك، وكان الانطباع السائد عنه أنّه يتصف بالحدة، وهو كذلك، لكنّها حدة النزاهة والنزعة الوطنية التي تحتاجها الدولة، ولذلك لقيت محاولاته للإصلاح والبناء معارضة علنية من عائلات أصحاب النفوذ في الضفتين، الذين أدركوا أنّ إجراءاته في الإصلاح، ومحاربة الفساد، وتحصين الدولة اقتصاديا وأمنيا وسياسيا ستضع للأردن بوصلة واضحة، وستقلص قدرتهم على احتكار النفوذ.
كان وصفي في الحادية والأربعين من عمره عندما تولى رئاسة الحكومة للمرة الأولى، ولم يكن قد تولى أي منصب وزاري قبل ذلك، لكنه امتلك خبرات كبيرة في التنمية الوطنية المستدامة، والإدارة العامة، وخدماته لأكثر من عقدين في السلك العسكري والمدني والدبلوماسي، وتجواله في أقطار كثيرة، وقراءاته المتنوعة والواسعة، ودراساته للسياسات العربية والدولية والتي جعلت منه مرجعا يعتمد عليه.
آمن الرجل بأهمية النظام والقانون في حياة الأمم والشعوب، مع إيمانه بأنّ القوة ليست الأداة الوحيدة لتحقيق ما يصبو إليه، وأنّ الأداة الحقيقية تتمثل في ثنائية الوعي والإدراك التي يجب أن تؤطر شخصية المواطن، بصرف النظر عن موقعه. منتهجا سلوكا سياسيا يستند على مبدأ الوضوح والمكاشفة. وهو القائل :”إنّ الوضوح في التفكير، كالوضوح في العمل، أساسان في قناعتي للحكم السليم”.
(3)
اختار التل فريقه الحكومي من(12) شخصية لم يسبق لها أن تقلدت أي منصب وزاري، وكان متوسط أعمارهم حوالي أربعين سنة، فكانت تشكيلة تمثل نخبة جديدة من الشباب المؤهل الذي يتمتع بخبرة إدارية. وكان معيار الاختيار هو الكفاءة والنزاهة والمؤهل العلمي المناسب، فكانت أقرب أن تكون حكومة خبراء.
في 22 شباط 1962 تقدم وصفي ببيان الثقة من مجلس النواب، متعهدا فيه أن تكون الحكومة "خادمة لا سيدة للشعب، وستزيل الحواجز بين الرئيس والمرؤوس”. مع عزمه على إزالة القيود المركزية، وتحرير آليات عمل الحكومة من المحسوبية والمحاباة، قائلا :”إنّ وزاراتي ستكون وزارة تخطيط وتنفيذ، تعنى بالخدمات العامة، وأنّها من أجل تحقيق ذلك سوف تعمل على تنظيف الجهاز الإداري وتنقيته من المحسوبية والحزبية والشوائب والشبهات”.
(4)
ولما قيل له أنّ هناك حملة قوية في صفوف النواب ضد سياسة وزارته، وخاصة حول موقف الحكومة من حرب اليمن، رد بالقول :”لا بارك الله في مجلس يخلو من المعارضين”. مضيفا:”إنّ معارضة النواب لمواقفنا من حرب اليمن مستمدة من حرب الإذاعات، وإنني باختصار أقول لهؤلاء، نحن ثابتون على سياستنا هذه، فمن شاء أن يوافق عليها فمرحبا به، ومن شاء أن يعارض فليبلط البحر”.
وقبيل انعقاد جلسة الثقة، اقترح عليه بعض الأعضاء إجراء اتصالات مع النواب لتأمين الأكثرية المطلوبة، فرفض التل قائلا :”سأتقدم إلى المجلس ببرنامج محدد، وكل نائب حر في أن يوافق عليه أو لا يوافق”. مبررا موقفه بالقول :”هؤلاء الذين يلبسون ثوب الغيرة على مصلحة حكومتي يرمون إلى فرض الوصاية علي وعليها، وسأكون مدينا لكل نائب يتم الاتصال به، وسيطالبني في المستقبل بقضاء حاجة خاصة له، لا شكرا، لقد أغلقنا دكاكين الواسطات، ولا نريد أن نفتحها من جديد”.
رافضا عريضة من أحد النواب موقعة من ثلاثين نائبا، تمنح الحكومة ثقتهم، قائلا:” هذه العريضة تخالف الدستور، أنا لا أؤمن بالعرائض، ولا أريد الحصول على الثقة عن طريقها، لقد عرضت سياسة وزارتي فليعط الثقة من يشاء علنا، وليحجبها من يشاء علنا. لم أخف شيئا عن المجلس ولا أريد أن يخفي أحد شيئا. أنا لا أشتهي الحكم، فإذا شاء المجلس أن استمر فليعط الثقة وإن لم يشأ فهو حر”.
(5)
وبالرغم من حصول الحكومة على ثقة مجلس النواب بحصولها على 55 صوت وامتناع نائب واحد، فقد أقدمت الحكومة على التنسيب بحل المجلس، فصدرت إرادة ملكية بحله في 26 أيلول 1962، قبل مضي عام على انتخابه. وقد أقدم على هذه الخطوة لشعوره أنّ انتخابات المجلس لم تكن بعيدة عن التدخل الحكومي.
وفي 27 تشرين الثاني 1962 جرت انتخابات المجلس النيابي السابع. وكان من مظاهر حرص الحكومة على نزاهة هذه الانتخابات محاكمة عدد من الأشخاص في الكرك بتهمة شراء الأصوات، حيث صدرت بحقهم أحكام بالسجن، كما أعادت الحكومة إجراء الانتخابات في مادبا بعد أن ظهرت في أحد الصناديق أوراق تزيد عن عدد الناخبين المسجلين لذلك الصندوق. وعملاً بأحكام الدستور قدمت الحكومة استقالتها في 2 كانون الأول 1962.... يتبع