حين يستقيل الحرف!!
ابدأ ببسم الله الرحمن الرحيم.. فالبسملة خير فاتحة للخطاب.. ثم استهل الحديث عن الحرف.. ومع الحرف .. والى الحرف الذي جاء بكامل قيافته حاملاً اوراقه الثبوتية.. وبوح صاحبه.. وعظيم رسالته ليرافقنا في رحلة افتراضية زوادتها قبضة وقائع من ارجاء الدنيا تجول في الخاطر.. وهاكموها مسلسلة طبقاً لزمن حدوثها.
الأولى.. زمانها في نهاية الستينات من القرن الماضي عندما اتخذ الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول قراراً يقضي بوقف تصريحات الوزراء خلال تربعهم على متون الطائرات أو حين يدلفون الى السلالم عند الوصول الى مطار المقصد.
وجاء في حيثيات الخبر الذي بثته وكالات الانباء أن احد الوزراء "خبص في الحكي" وهو يدلي بتصريح لدى وصوله الى مطار احدى الدول في المغرب العربي ربما لأنه زاد في عيار عصير التفاح المغشوش قليلاً خلال رحلته.. فكان ان ثقل لسانه.. وزل الحرف عن مقصده.. وخفت موازين كلامه.. فاستحق عتاب الرئيس ديغول مشفوعاً بعقابه الذي يقضي بوقف صنابير الحكي لدى اصحاب المعالي الوزراء الاّ في الوقت المناسب وبعد التحضير المناسب وفي النسق المناسب!!
وكأني بلسان حال الزعيم الفرنسي المرموق يقول: لقد صيرتك وزيراً يا هذا.. لكني لا استطيع أن أجعل منك وزيراً كفؤاً ومفوّهاً يتعاطى مع الحرف والسياسة والدبلوماسيه بمهارة وصحو ودهاء!!
وثانية الوقائع عن الحرف ودوره ورسالته حدثت في منتصف السبعينات من القرن الماضي أيضاً عندما ذهبنا الاستاذ عزالدين التل وكاتب السطور العبد الفقير الى الله في زيارة الى جمهورية بلغاريا كوفد اردني لتوقيع اتفاقية ثقافيه في مجال الاعلام المسموع.. وفي اليوم الاخير للزياره ابلغتنا المرافقه وهي بالمناسبة اديبة وشاعرة بلغاريه مشهوره.. وهي مناصرة لقضيتنا العربيه الفلسطينيه.. ومفتونه بابداعات الشاعر العربي الفلسطيني الكبير محمود درويش.. حاصله أبلغتنا بأن مسؤول الثقافه في بلغاريا وجّه لنا الدعوة لتناول عشاء عمل في مبنى المركز الثقافي السوفياتي في العاصمه البلغاريه (صوفيا) ولم تضف اكثر من ذلك! وفي مساء ذلك اليوم تحلقنا حول طاولة مستطيله وبحضور المسؤول البلغاري وهو بالمناسبة شاب طيب المعشر ومثقف يتقن عدة لغات.. ويحسن التعاطي مع الشأن الثقافي.. مثلما يتقن فن الاتكيت والمجامله.. وعرفت فيما بعد انه نجل رئيس الجمهورية السيد تيدور جيفكوف.
وكانت فاتحة اللقاء استعراض مواقف جلالة الحسين المشهورة والمشهوده على كافة الصعد.. وبعد ذلك تحدث الرجل وقال ان الهدف من عقد الاجتماع في المركز الثقافي هو الانضواء تحت سقف الثقافة وفي افياء الحرف ورسالته الساميه في الربط بين الأمم والشعوب!! وارجو ان يصل هذا المعنى وهو اننا نقدم اقصى درجات التكريم لدولة صديقه عندما نوقع هذه الاتفاقيه في اجواء الثقافه وافياء الحرف.. فوصلت الرسالة الواضحه الى مسمعينا وشكرنا الرجل على كلامه الدافيْ!
والثالثة.. في منتصف الثمانينات حين كنت في زيارة الى كوريا الجنوبيه وخلال الطريق الواصل من العاصمة (سول) الى مدينة (بوسان) التي تتربع على كتف البحر للاطلاع على دور الجمعيات التعاونيه هناك.. تشعب الحديث الدائر باللغة الانجليزيه بيني وبين مرافقي.. ولا أدري كيف جاء على ذكر السيوف وصناعتها حين قال ان احدى الدول المجاوره في جنوب شرق اسيا مشهورة بصناعة السيوف المذهبة والمزخرفة والتي تلقى رواجاً لا مثيل له.. وتوقفت بهذا الصدد عند جملة واحدة في حديثه حين قال: ان الرخصة اللازمة لصناعة السيف تستوفى من وزارة الثقافة..!! اي ان السيف رغم سطوته ومهابته ورمزية دوره يستأذن الحرف لكي يمنحه شهادة ميلاد وممارسة المهنه وبالتالي رمزية السطوة والهيبه!! فلا رخصة للسيف بدون موافقة الحرف!!
فتصور – يا رعاك الله- حين يغدو حد الحرف امضى من حد السيف!! مع الاعتذار الشديد للشاعر العملاق (أبوتمام) الذي أعلن كلاماً يفيد عكس هذا المعنى حين قال:
السيف اصدق انباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
حاصله.. طافت هذه الوقائع في خاطري حول اهمية الحرف ودوره ورسالته عندما قرأت في (الرأي) الغراء رسالة بعث بها الشاعر الكبير الاستاذ حيدر محمود الى صديقه (الشنفرى) ثابت بن أوس صاحب (اللامية العربية) التي ترجمت –لاهميتها وبلاغتها- الى كل لغات الدنيا!! واستميحكم عذراً بأن اقتطف من ثناياها بيتين اثنين لانهما قد يصبان في جدول وصلب رسالة الشاعر الكبير (ابو عمار) الى صديقه شيخ الصعاليك (الشنفرى)!!
أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيَّكُم فَإِنّي إِلى قَومٍ سِواكُم لَأَمَيلُ
وَفي الأَرضِ مَنأى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ
ورغم دهشتي البالغه تجاه اعلان الاستقالة من الشعر أو الطلقة الشعرية البائنة الاولى – ان شئت- فقد نحوت منحى تهدئة خاطر صديقي الشاعر الكبير معالي أبو عمار وقلت من قبيل المجامله: ان من حق الحرف أن "يحرد" .. والشعر ان يغضب عندما تغدو التغريدة بديلاً للمعلقة والقصيده!! ومن حقهما ايضاً ان "يزعلا" عندما يغدو الهذر بديلاً للنثر الموزون والكلام الهادف.. أو عندما يغدو "الهرف" بديلاً عن الحرف!!
لكن..ومع ذلك فان اسئلةً حائرةً ظلت تراودني وتلح على خاطري بأن اجهر بها.. ولعلّي اعرضها على مسامع صديقي الشاعر والسفير والوزير الاستاذ حيدر محمود متمنياً عليه احتمال تدخلي في شأن يعتبره خاصاً بينه وبين صديقه (الشنفرى) فيما اعتبره أنا شأناً عاماً بالكامل!! واني اطرح اسئلتي والتي تقف على تخوم اسئلة العارف وتخوم البوح الشفيف ايضاً واقول: كيف يستقيل من الشعر من تشرف شعره وتعطر بيانه بذكر رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلّم حين بث نجواه الموسومه (بين يَدَيْ سيّدِ الخَلْق) يناشد فيها النبي العربي الهاشمي الأمين بأن يعيد لنا (اقرأ) لينهمر الندى عطراً وندى..ويناشد خاتم الأنبياء ويناجيه بالقول شعراً:
سقطت جميع الفلسفات ولم يعد الا هداه .. لمن اراد هداه
فارجع الينا، يا ربيع قلوبنا الزاهي فقد ضل الجميع وتاهوا
واعد الينا (اقرأ) لينهمر الندى عطرا وينشر في اليباس نداه
(اقرأ) فان الجاهلية كشرت عن نابها والكفر يفغر فاه
هي "جاهليتنا" وفيها من "ابي جهل" ملايين ومن شركاه
يتطاولون على "محمدنا" ولا صوت يثور ولا تزمجر آه
واني اسأل: كيف يستقيل من الشعر ويهجر الحرف من استمطر شعره وسحر بيانه الندى من عيني الحسين العظيم طيب الله ثراه عندما قال في حضرته ذات بوح:
تَوَحَّدَ الكُلُّ فينا، فَهْوَ خَافِقُنا ونحنُ خافِقُهُ•• والرُّوحُ، والبَدَنُ
وَهَلْ، الى غَيْر عَيْنيْهِ، وَهُدْبِهِماتأوي؟! اذا عا نَدَتْها رِيحُها السُّفُنُ؟!
وكيف يستقيل من الحرف والشعر من بنى من وميض الشعر ووهج الحرف وندى العين المكلومة بيتاً واحداً مجبولاً بالوفاء ووجع القلب.. يُغني عن معلقة من الف بيت وبيت عندما خاطب شاعرُ الوطن (ابوعمار) خاطب (خال عمار) الشهيد وصفي التل ذات مناجاه:
وصفي وأعرف ان الروح تسمعنيارجع ولو شوكة في الخصر توجعني!!
وكيف يستقيل من الشعر من املى قلبه ووجدانه على شعره وحرفه تسطير فصول ملحمة تتغنى بالقدس الشريف..وتمجد الشهاده.. والجيش العربي.. والكرامة.. والنصر.. والتاج.. والشماغ؟! هذه الامجاد التي ظلت لازمة نتغنى بها صباح مساء ونحتفظ بها في قلب القلب!!
كيف يستقيل من الشعر واسار الحرف من جعلنا شعره وسحر بيانه نستعذب "الدفلى" ونستطيب مرارته.. ونرقص على ايقاع رفيفه وانعكاس طربه على صفحة ماء النهر الخالد الواصل بين ضفتي وشرايين القلب الواحد؟!
كيف يستقيل من الشعر من ولد على صفحة الماء في بحر (حيفا) العربيه الفلسطينيه.. وتعلق بصفحة ردن ثريا الغاليه.. وشمخت عينا الطفولة الى صفحة السماء.. فابصرتا صفحة الثريا.. ومشتا مع درب التبانه.. وكتب بشاهده وفؤاده على صفحة الماء الفلسطيني.. وصفحة المجد العربي.. كتب بصمة وحروفاً.. وكتب اشجان اللثغة الاولى على ارض (حيفا).. وكتب طيلة عمر حرفه وسني شعره من سفر الوفاء (لحيفا) .. وفلسطين.. وثريا.. والثريا.. ولعيون الحسين العظيم الذي يعرف جيداً معنى الحرف ومدلول البوح دون بوح!!
وكيف يستقيل من الشعر وينسلخ عن الحرف الهادف من قدّم اوراق اعتماده الشعريه ذات (ضُحى) الى ابي القاسم الشابي في (تونس) الخضراء حيث تعانق طيفا الشاعرين.. وانشد العملاقان بلسان عربي غير ذي عوج:
(اذا الشعب يوماً اراد الحياةفلا بد ان يستجيب القدر!)
وكيف يستقيل من كتب بحروف الصبر النبيل.. مغناة النصر الجميل على صفحات ملحمة الكرامة الخالده؟!
وكيف يستقيل من الحرف والشعر معاً من صيّر الحرف سيفاً.. والنصل رمحاً.. والغمد مستودعاً رحباً زوادته العنفوان..والفرح.. والحزن.. والصهيل.."والحرد احياناً"!!
واني في الختام اسأل: هل يستقيل الحرف.. وصاحب الحرف.. من الحرف.. لأن طبلات اذان الناس في دنيا العرب لا تسمع جيداً؟!
واترك الاجابة لصديقي الشاعر والسفير والوزير.. وللحرف الموجوع ولعناية صديقه شيخ الصعاليك (الشنفرى)!
وبعد الختام اقول.. كيف يستقيل من الشعر.. من شعره حيدر.. وفعله حيدر واسمه حيدر؟! (وحيدر لمن لا يعرف احدى اوصاف الاسد)
ايها الصديق.. يا ابا عمار.. وجع حرفك موجع.. وحرف وجعك موجع.. فهلاّ هدهد حرفك وصبرك وجع كبدي؟!