أضواء على سيرة الشهيد وصفي التل: (6) (1)

على الرغم من الدور الأساسي الذي قام به الجيش العربي في معركة الكرامة (21 آذار 1968) إلا أنّ الإعلام المحلي لم يستطع أن يعكس هذا الدور، ويقدم الحقائق للجمهور العربي. كما لم تستطع الحكومة أن تستوعب نتائج المعركة، وتضعها في مكانها المتوازن لتطوير العمل المقاوم بصورة منهجية.

وبالمقابل شنت "فتح” حملة سياسية إعلامية لتصوير نصر الكرامة باعتباره مكسبا خاصا لها، متجاهلة الدور المركزي للجيش العربي الأردني. وبذلك استطاعت أن تحصد سياسيا وإعلاميا نتائج معركة بطولية خاضها جنود أردنيون مع مقاتلين فلسطينين، لتؤكد حضورها السياسي الداخلي المدعوم عربيا وخليجيا على وجه الخصوص، من خلال استقطاب وتمويل وتسليح ميليشيات كبيرة في عمان والمدن الرئيسية في البلاد، واستمالة شخصيات سياسية وإعلامية، تمكنت عبرها من السيطرة على التنظيمات الأخرى، وتعطيل قوى الدولة، ومحاولة فرض خياراتها السياسية على النظام.

بدأ زمام الأمن يفلت في الأردن بعد معركة الكرامة؛ إذ اشتدت هجمات العدو على قواعد الفدائيين، فأخذ هؤلاء يتراجعون إلى المدن ويقيمون قواعدهم فيها، وأخذت نشاطاتهم تتخذ طابعاً سياسياً، بحكم تعدد المنظمات، وتبعية أكثرها لدول عربية.
(2)
عملت على الساحة الأردنية العديد من المنظمات، والتي شهدت حركات انضمام وانشقاق متواصلة، تقاطعت مع تأثيرات أجهزة المخابرات العربية والدولية؛ فظهرت "الجبهة الشعبية” بقيادة جورج حبش، و "الجبهة الديمقراطية” بزعامة نايف حواتمة، و”جماعة عصام السرطاوي” المنشقة عن فتح، والتي أصبحت منظمة تابعة للقوات العراقية في الأردن، و”جبهة النضال الشعبي” التي تأسست كمجموعة مستقلة من "حركة القوميين العرب”، و”منظمة فلسطين العربية” المنشقة عن" الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة”، و”المنظمة الشعبية لتحرير فلسطين” التي تأسست برعاية سورية، و”تنظيم الصاعقة” الذي تأسس في سوريا، وامتد إلى الأردن بقيادة ضافي الجمعاني، و”جبهة التحرير العربية” التي أسسها حزب البعث العراقي، لتكون منافسا لمنظمة الصاعقة السورية، و”قوات الأنصار” التي أسستها الأحزاب الشيوعية العربية، وغيرها من التنظيمات.
(3)
وفي هذا المشهد الذي تقاطعت فيه مصالح قوى عربية تعمل ضد الأردن مع مراكز قوى داخل المملكة تعززت لدى وصفي القناعة بوجود مخططات إقليمية دولية تحاول الدفع باتجاه أن تتولى المنظمات قيادة العمل السياسي والتفاوض بدلا من التحرير، بعد أن بدأت الخلافات بين المنظمات متعددة المشارب والمرجعيات السياسية والفكرية تظهر أمام الرأي العام. وأخذت العناصر الدخيلة المدسوسة تتسرب إلى صفوف الفدائيين، كما ساعد تسرب العملاء وخاصة الذين جندتهم إسرائيل، أن يكونوا عنصراً هاماً في تخريب وتوجيه بعض المنظمات.
وتكاتفت عدة قوى عربية ودولية لإيجاد حل وتصفية للقضية الفلسطينية على حساب الأردن، وإشباع رغبة بعض العرب بدولة فلسطينية، ولو لم تكن على شبر واحد من أرض فلسطين. وكان وصفي قد وصل في تلك المرحلة إلى قناعة بأنّ انهيار الحكم في الأردن هو من أول أهداف الاستراتيجية الإسرائيلية.
ويؤكد التل أن هذا الوضع لم يكن من باب الاستنتاجات، بل هو حقائق ووثائق اعترفت قيادات الفدائيين بمعظمها. وعندما يروي كيف وقعت فتنة أيلول لا ينسى أن يؤكد انه لا يتهم الفدائيين جميعهم؛ إذ أن هناك عناصر مقاتلة شريفة وشجاعة تعرف واجبها وهدفها، وتتصف بمستوى خلقي وسلوكي عالي، ومدربة ومؤهلة للعمل الفدائي الشريف والحقيقي.
وكان يرى أنّ الفدائيين يجب عليهم أن يوجهوا نشاطهم إلى داخل الأراضي المحتلة، وأن تتمركز المقاومة في الأرض المحتلة، وتنشئ لها قواعد هناك، على أن ينسق العمل الفدائي في الأردن مع سلطات الدولة، كما هو الحال في سوريا والأقطار العربية الأخرى.
وحينما وجد أنّ عرفات يحمل مشروعا مناقضا لمشروعه بذل التل جهودا كبيرة للتفاهم مع قيادة المنظمات الأخرى على بناء استراتيجية دفاعية وطنية دون جدوى. ويؤكّد ضافي الجمعاني أنّ عرفات كان يعرقل أيّ محاولة لتخفيف حدة الصراع، ويضيف في مراجعته لما حدث :”كنت أعلم علم اليقين بأنّ أبو عمار لا يستهدف تحرير شبر من الأرض الفلسطينية بالكفاح المسلح”.
(4)
والذين عرفوا وصفي جيداً يعرفون أنّه لم يكن خصماً للعمل الفدائي، أو ليس طرفا ثانيا للعمل الفدائي، بل إنّه في طليعة اللذين نادوا بقيام العمل الفدائي، فقد كان رجلاً عسكرياً، وله تجربته العملية الطويلة، وقد لاحظ خطئًا حاول إصلاحه بشتى الوسائل، ولما أيقن أنّه قد دس على العمل الفدائي أعداء للمعركة، وأعداء للأردن وفلسطين، وأعداء للتحرير، فقد وقف أمام هذا الدس بصلابة وجرأة وشجاعة، وأعلن أنّه يحمي العمل الفدائي المقدس من الذين تسلقوه لأغراض لا علاقة لها بالفداء من قريب أو بعيد.
وكان في طليعة المؤمنين باستحالة موافقة إسرائيل على الحل السلمي، واستحالة جلائها عن شبر واحد من الأراضي المحتلة بغير القوة، مؤمنا بضرورة الحشد العسكري: جيشاً وشعباً وفدائيين في خطة واحدة وتحت قيادة واحدة، حتى يمكن أولاً إفشال مؤامرة تخريب الأردن، على أساس أنّ الأردن هو القاعدة الرئيسية لكل جهد عسكري، ثم حتى يمكن خوض معركة موحدة مع العدو الذي يدير شؤونه المختلفة تحت قيادة واحدة مستندة إلى العلم والقوة والتجربة والتخطيط.
(5)
ويؤكد وصفي أنّ خطة حكومته قائمة على أساس وضع العمل الفدائي على طريقه الصحيح؛ إذ أنّ العمل الفدائي كانت له بداية جيدة، لا يمكن لأحد أن ينكرها على الإطلاق، وخاصة عندما بدأت بالقلة المقاتلة المصممة على التحرير. وفي تلك المرحلة لم يكن أي مواطن أو جندي يبخل في أن يفتدي العمل الفدائي بنفسه وماله. أمّا بالنسبة للقوات المسلحة الأردنية فقد كان العمل الفدائي يجري بحمايتها ودعمها، وكانت المدن والبلدات الأردنية عرضة لغارات جوية عنيفة سقط فيها العشرات من الشهداء المدنيين والعسكريين.
ولا شك أنّ من أكبر الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها بعض المنظمات وسكتت عليها البقية الأخرى، هو رفعها شعار(لا سلطة إلا للمقاومة)، وترديدها علناً في صحف أخذت تطبعها وتوزعها في الأردن والعديد من الدول العربية، وفي خطابات تعقد لها المؤتمرات في أحياء العاصمة، ومختلف المدن والقرى الأردنية، وهي تعلن صراحة بضرورة إزالة النظام الأردني .... يتبع