حدث في الذاكرة.. الشاعرة والقاصة التونسية وداد رضا الحبيب والشعر كممحاة للألم والفشل

في هذه الزاوية تفتح الجزيرة نت مساحة لكاتبات وكتّاب لكي يتحدثوا عن الحدث أو الحادث الذي غيّر حياتهم، وجعل منهم شعراء أو روائيين أو قصاصين وأيضا مسرحيين ومترجمين أو حتى ناشرين، بخلاف توقعات الأهل أو الأصدقاء.

في الوقت ذاته، تعتبر هذه الزاوية نافذة للقارئ والمتابع، لكي يتعرّف على جزء حميميّ وربما سرّي لمبدعين مختلفين في طرق وأساليب التفكير والحياة والكتابة.

ضيفتنا اليوم الشاعرة والقاصة التونسيّة وداد رضا الحبيب التي وُلدت في مدينة بني خلاد التابعة لولاية نايل التونسية عام 1982، وتلقت تعليمها في مدارسها، قبل أن تحصل على شهادة "الأستاذيّة في اللغة والآداب الفرنسيّة" من جامعة تونس. وتحضّر حاليا رسالتها في الماجستير قسم الفلسفة لدى المعهد العالي للعلوم الإنسانيّة في العاصمة تونس.

صحيح أن وداد تأخرت نوعا في إصدار مجموعاتها، إلا أنها لم تتوقف عن النشر والكتابة منذ نشر مجموعتها القصصية الأولى "ثرثرة أنثى" عام 2017، والتي سبق أن حصلت على الجائزة الثانية عام 2016 في مسابقة "يوسف زيدان" المصرية للقصة القصيرة.

عام 2017 أصدرت وداد مجموعتها الشعرية الأولى "أنا العاشقة". وفي العام التالي صدرت مجموعتها الشعرية الثانية "خيال المرايا" لتعود بعدها للقصة القصيرة من خلال نشر مجموعتها القصصية "سيزيف الأخير" عام 2019. وهذا العام شهد نشر مجموعتين شعريتين لها: الأولى كانت بعنوان "كأسطورة في كتاب الفناء"، وصدرت الثانية قبل أيام بعنوان "شهيّ كالوداد".

قبل نشر مجموعاتها القصصية والشعرية، ترأست وداد جمعيّة "ثقافة وفنون" في مدينتها بني خلاد بين عامي 2016 و2018. وتعمل حاليا أستاذ أول فوق الرتبة في المدارس التونسية.

وهنا شهادتها عن الأسئلة التي طرحتها عليها الجزيرة نت.

برنس اللامبالاة

هذه الأسئلة تعني لي العودة إلى البدايات، إلى تلك اللحظات الأولى التي جعلتُ لنفسي فيها مِحرابا من غواية اللّغة، محرابا يسع الكون ويوقد المعنى ويستمع إلى حيرة أسئلتي المتكئة على كتف التيه.

تلك اللحظات التي وُلدت من رحم الألم، من صراخ الصّمت، من تلاشي المعنى ورحيل الأفق. ما أصعب الحديث عمّن لم يرحل يوما، ولكننا تجاهلناه وارتدينا "برنس" اللامبالاة لنجده أمامنا شامخا بكبريائه القاتل وصمتنا الحائر.

كنت قبل خوض تجربة الكتابة، بصفة رسميّة ومعلنة، كطفل هجر حضن أمّه وركض بلا خريطة، بلا بوصلة، بين أزقّة مدينة مهجورة موحشة.

الحدث الذي غيّر حياتي

حدثٌ واحد غيّر حياتي ورمى بي في حضن اللغة وعوالم الكتابة بين القصة والشعر. حدث كان قرارا مصيريّا في لحظة فارقة انعطفت معه حياتي، وسافر معه قطار عمري نحو حياة جديدة اكتشفت متعتها وحدائقها ولذّة قطافها مع كلّ فجر جديد، ومع كلّ حرف جديد، ومع كلّ همسة أكتبها أو تلامس مشاعري المتعبة.

حدث ذلك قبل 5 سنوات تقريبا عندما وضعتُ حدّا لحياتي الزوجيّة. تركت مؤسسة الزواج خلفي ومضيت.

في تلك الأيام العصيبة والأشهر المريرة كان ملاذي الوحيد هو القلم والورقة البيضاء. أخطّ عليها خواطري وأحلامي المسلوبة وأمنياتي المسروقة. لم أسمح للدموع ولا كلمات اليأس ولا الفراغ أن تسكن حديقتي المتعبة أصلا. سقيت ورودي رحيق الحرف.

وهم الفشل

هكذا فجأة، وبكل صدق، بدأت الكتابة، ولم أتوقّع أبدا، ولم أخطّط، أن أكون ما أنا عليه اليوم: الأديبة وداد رضا الحبيب. اليوم أقف أمام جدار الأيام أقرأ ما حقّقته من 6 إصدارات، ومن ترجمة لكتاباتي، ومن نشر في الدّول العربيّة والأوروبيّة وفي أميركا وبريطانيا وغيرها، ومن تكريم في تونس والجزائر ولبنان.. أقف وليس لي إلا الصّمت أمام غرابة العالم وخطى الأيام. كيف يمكنها أن تأخذنا في لحظة الانهيار إلى قمم النجاحات الحقيقيّة. أقف اليوم أتأمّل كيف يولد النّجاح من وهم ما يسمّى "الفشل" كيف يولد الإنسان من رحم الموت النفسيّ.

نعم، جعلتُ من الكتابة محرابي وملاذي. ومنه كانت الرّحلة لأكتب قدري بيديّ ولأنهض من جديد ولكن تعلّمت كيف أجعل للكتابة معنى وهدفا وقضيّة. كيف أروّض انفعالاتي وقلمي الثائر ليكون مصدحا للقضايا الحقيقية التي أرّقتني، ومازالت تلحّ على واقعنا العربيّ.

لن أقول إنّ الكتابة كانت من فراغ، فقد كنت مولعة منذ صغري بالمطالعة والبرامج الثقافيّة والملفات التاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة وحتى الاقتصاديّة على التلفاز، وكنت شغوفة بالمحاورات الطويلة عن السياسة والدّين ولم يكن لفضولي ولا لأسئلتي ضفاف.

الأدب الفرنسي

توجّهت إلى اختصاص أدبيّ، بعد حصولي على شهادة البكالوريا في العلوم التجريبيّة، حيث تحصّلت على الأستاذيّة في اللغة والآداب الفرنسيّة لأكتشف روعة الاختلاف وتلاقح الحضارات وعمق الكائن البشريّ وجماليّة الأدب الفرنسيّ وفكره الثائر على المستوى الأدبي والسياسي والفكري. عشقت المسرح مع جون بول سارتر وراسين، وسكنت دواوين شارل بودلير ورامبو، واطّلعت على أفكار مونتسكيو وفولتير وغيرهما، كما كان لي وقفات مع فلاسفة التنوير. ولم أكتف بذلك، فبعد سنوات من التّدريس عدت إلى مدارج الجامعة لأغنم من الفلسفة. وها أنا اليوم بصدد إتمام بحث الماجستير في فلسفة الحداثة والتنوير. كلّ ذلك ساهم في صقل معارفي، والذهاب بعيداً في طرح القضايا التي أرجو الدفاع عنها وتقديم الإضافة ولو بالقليل.

الشعر الصوفي

ورغم اختصاصي الفرنسي كتبت باللغة العربيّة حيث بعدي الحضاري والثقافي، وحيث انتمائي وحيث يمكن أن أخاطب من لهم يهمس قلمي.

كانت أوّل كتاباتي في الشعر الصوفيّ، وقد عشت فعلا تجربة صوفيّة عميقة أثّرت، وما تزال تؤثر، فيّ وفي كتاباتي. والتي اختزلها بالقول إنّ الدين حب ومحبّة وسلام لجميع الكائنات، حتى النباتات منها والجماد، وإنّ علاقتنا بالخالق عشق واحتواء وسكون.

الاكتشاف

في نفس تلك الفترة بدأتُ كتابة القصّة القصيرة، وكنت أنشر ما أكتب على صفحتي "الفيسبوكيّة" فاكتشفني القاص والناقد التونسي المعروف عمر السعيدي ومعه كانت البداية. وبعد أشهر صدرت لي مجموعتي القصصيّة "ثرثرة أنثى" وتتالت الإصدارات بين الشعر والقصة القصيرة.

عشقي للشّعر جاء من رحم عشقي للحياة. بل هو الحياة. الشعر وحده يجعل لحياتي معنى. معه وفي محرابه أنا أوجد وأزهر. في محراب الشعر رأيت حديقتي تبتسم من جديد. عادت الزهور إليها وزارتها من جديد فراشات الأمل وأحلام الرّبيع.

عشقي للشعر بدأ مع المتنبي وشعراء القوافي والبحث بين ثنايا الكلمات وما يهمس به المعنى. اليوم أغلب كتاباتي من الشعر بين القصائد العموديّة وقصيدة النثر، لأنّ الشعر بالنسبة لي مشكاة البوح التي ينير منها ويطرب وينتشي كل وجداني. تأخذني إلى حيث لا حدود ولا قيود، فقط إلى حيث يسكنك الإحساس ويتجلى الإنسان فيك بكلّ قداسته.

المصدر:الجزيرة