لا لتوقيف وحبس الصحفيين
عندما تولى جلالة الملك سلطاته الدستورية التقى مجلس نقابة الصحفيين وكنت أمين السر وعبّر لنا بوضوح عن دعمه للإعلام وقال "حرية الصحافة حدودها السماء”، ومنذ ذلك الحين لم تترجم الحكومات المتعاقبة كلامه إلى أفعال، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل أكد في حديث منشور في وسائل الإعلام "أن توقيف الصحفيين أمر يجب أن لا يتكرر”.
يوم الخميس الماضي قرر مدعي عام محكمة أمن الدولة توقيف الزميل الإعلامي جمال حداد على خلفية مقال يتضمن مجموعة تساؤلات حول مطعوم فيروس كورونا، وكيف أعلن بعض المسؤولين على صفحاتهم الشخصية أنهم تلقوا التطعيم، وهل وصل اللقاح ويعطى لـ "علية القوم” كما وصفهم؟
قرأت المقال أكثر من مرة فلم أجده خطيراً ويثير الهلع في المجتمع، وكان يمكن ببساطة للحكومة أن ترد على ما كتبه وهو حقها، فتؤكد أن بعض المسؤولين أخذوا المطعوم الصيني التجريبي، وأن لقاح "فايزر بيونتيك” لم يصل للبلاد بعد، وأن الحكومة ستعلن خطة تفصيلية لمن سيعطون الأولوية في تناول اللقاح.
كانت هذه الإجابة كفيلة بإغلاق باب التساؤلات واللغط، وكفى المؤمنين شر القتال، وبصراحة لم أفهم الرسالة من استدعائه وتوقيفه في سجن ماركا، ثم نقله في اليوم التالي إلى مستشفى البشير بسبب ارتفاع مفاجئ في ضغط الدم؟
في الأشهر الماضية تكررت إحالة الصحفيين إلى محكمة أمن الدولة وتم توقيفهم على ذمة نشر وبث أخبار وتقارير صحفية، ففي أول جائحة كورونا حدث ذلك مع مدير عام قناة رؤيا فارس الصايغ ومدير الأخبار حينها ومقدم برنامج نبض البلد محمد الخالدي، وبعدها تعرض رسام الكاريكاتير عماد حجاج للتوقيف، هذا عدا قضايا أخرى أحيلت للقضاء المدني وتعرض بعض المشتكى عليهم للاحتجاز والتوقيف إلى حين تكفيلهم.
واجب الحكومة أن تقدم وبصورة منتظمة إفصاحاً استباقياً للمعلومات، وواجبها أن ترد على أسئلة الصحفيين حتى وإن كانت قاسية ولم تعجبها، وبعكس ذلك فإن الحديث المتواصل عن الالتزام بضمان حق الحصول على المعلومات إنشاء لا معنى له.
لا أوجّه اللوم لحكومة الدكتور بشر الخصاونة وحدها في إدارة الظهر للصحافة وحرية التعبير والإعلام، وإنما أتهم كل الحكومات المتعاقبة بالتقصير وتحمل المسؤولية عما آلت له الأحوال، واستخدام السوشال ميديا للترويج الحكومي أمر جيد ومطلوب، ولكنه ليس بديلا عن القبول بفكرة رقابة ومساءلة وسائل الإعلام لها.
وحتى لا نُتهم كالعادة بأننا لا نرى إلا النصف الفارغ من الكأس، أقول أحسنت الحكومة بسحب مشروع قانون الجرائم الإلكترونية من أدراج مجلس الأعيان مؤخرا، وبانتظار أن تجري تعديلات جذرية عليه تمنع توقيف وحبس الصحفيين ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وتلغي تعريف خطاب الكراهية والعقوبات التي اقترنت به، وكذلك مواءمة القانون مع الدستور والمعايير الدولية لحرية التعبير.
وشكرا للحكومة لأنها أقرت بروتوكولات إنفاذ حق الحصول على المعلومات، والعبرة الآن في آليات لضمان التنفيذ والالتزام في المؤسسات العامة، وأخيرا ننتظر مراجعة حصيفة لقانون حق الوصول للمعلومات في مجلس النواب بالتشاور مع أصحاب المصلحة من جمهور وإعلاميين ومؤسسات مجتمع مدني.
الإعلاميون والناشطون الحقوقيون أطلقوا حملة على منصات التواصل الاجتماعي تحمل هاشتاج "لا لحبس الصحفيين”، وسيكون لحالة التضامن الشعبي أثرها، وعلى الحكومة أن تستدرك الخطأ بفتح حوارات جدية لبناء تفاهمات، واتخاذ تدابير وإجراءات لحل هذه الإشكاليات المزمنة والتي تلحق ضررا بصورة الأردن دوليا.
في تقرير بيت الحرية "فريدم هاوس” تكرر تصنيف الأردن كبلد حر جزئياً، وفي تقرير "مراسلون بلا حدود” نحتل المرتبة 128، وبعد كل حادث توقيف أو اعتداء على صحفي أو ناشط حقوقي فإن مؤشراتنا في التقارير الدولية تتراجع حكماً.
تعرف الحكومة ويعرف وزيرها علي العايد خريطة الطريق للحلول، والمطلوب إرادة سياسية حاسمة للتغيير، والبدء بورشة عمل لمراجعة وتعديل التشريعات المقيدة لتتواءم مع الدستور والمعاهدات الدولية التي صادق عليها الأردن، وسياسات مبنية على خطة تنفيذية لها مؤشرات قياس وتقييم، وممارسات تضع حدّاً لكل انتهاك وتجاوز على سيادة القانون وتمنع الإفلات من العقاب.
بعد أكثر من 20 سنة على شعار الملك "حرية الصحافة حدودها السماء” لماذا لا تحاول هذه الحكومة شرف المحاولة بتطبيقه وتنفيذه على أرض الواقع؟
(الغد)