مِن عجفاء "كورونا" إلى عام فيه يتعافى التعليم والناس، وبِه يستبشرون
ما نفدَتْ صوامعُ أرواحِنا منْ حصيلةِ صبْرٍ زرعْناهُ سنينَ دأَبًا، وتركْناهُ في سُنْبلِهِ، ذخيرَةَ خيرٍ لأيّامٍ عجافٍ ما استطاعَتْ إلّا أنْ تأكلَ يابسَنا، وبقيَ أخضرُنا في قلوبِنا المُؤمنةِ الآمنةِ، فالأنسانُ إنْ لمْ يخسرْ عزيمتَهُ وصلابةَ شكيمتِهِ فما خسرَ شيئًا، وإنْ خسرَهُما فما هوَ إلّا ميّتٌ يدَّعي الحياةَ.
في كلِّ السّنواتِ العجافِ ضربَ الأردنيّونَ المثلَ في تجرُّعِ حنظلِ الصّبرِ، هاجسُهم أنَّ الشّدّةَ بتراءُ لا دوامَ لَها، وأنَّ الحياةَ تَمضي مَزهوَّةً زاخِرةً، آخِذةً درسًا منْ كلِّ وهنٍ أصابَها، تَجدلُ من الصِّعابِ حزامًا تشدُّ بهِ عودَها، وتواصلُ الطّريقَ.
لمْ يعرفِ الأردنيّونَ اليأسَ يومًا، فحكاياتُهم معَ الصّبرِ طويلةٌ، يشهدُ لَها خيطُ الفجرِ إذْ يتميّزُ عنْ خيطِ اللّيالي السّودِ الّتي مرَّتْ بِهمْ مرورَ اللّئامِ، ومَرّوا بها مرورَ الكرامِ بكلِّ مُرٍّ؛ ليصيرَ عذبًا بجميلِ صبرِهِم. ويشهدُ لهُمْ خيطُ الرّبابةِ، وهيَ تشاركُهم حبَّهم لِلأرضِ، ولِلنّاسِ، ولِخبزِ الطّابونِ، ولِفنجانِ السّادةِ، يُحلّونَهُ بِلمّةِ الأحبابِ في كلِّ سامرٍ، حالُهُم في الصّبرِ الجميلِ حالُ أبي ذؤيبٍ الهذليِّ إذْ قالَ:
وَتَجَلُّدي لِلشّامِتينَ أُريهِمُ أَنّي لِرَيبِ الدَّهرِ لا أَتَضَعضَعُ
باعدَتْ كورونا بينَ أجسادِنا، لكنَّها قاربَتْ بينَ قلوبِنا وأرواحِنا، وعلّمَتْنا مزيدًا منْ دروسِ الشّوقِ والحبِّ لِلنّاسِ ولِلوطنِ، وزادَتْنا يقينًا بأنَّ الحياةَ ما هيَ إلّا النّاسُ والعملُ والتّفاصيلُ الصّغيرةُ الّتي كُنّا نراها روتينًا مملًّا. ووثّقَتْ التِفافَنا التفافَ السّوارِ على المعصمِ حولَ قيادتِنا الهاشميّةِ الأبويّةِ الحكيمةِ، الّتي ما فتئتْ تؤكّدُ في مواقفِ الشّدّةِ قبلَ الرّخاءِ أنَّ الإنسانَ أغْلى ما نملكُ، وأنّ صحّةَ الأردنيّينَ خطٌّ أحمرُ لا يمكنُ تجاهلُهُ، أو تناسيهِ، أو تجاوزُهُ في أيِّ خطّةٍ نَبنيها، وفي كلِّ سياسةٍ نتبنّاها، وفي كلِّ خطوةٍ نَخطوها، فكانَ هذا التّوجيهُ المَلَكيُّ في الرّعايةِ الأبويّةِ المسؤولةِ، الخطَّ العريضَ الّذي انبثقَتْ منْهُ كلُّ الإجراءاتِ الرَّسميّةِ والشّعبيّةِ في معرضِ تصدّينا للوباءِ. كما عمّقَتِ الجائحةُ بُعدَنا الإنسانيَّ، فحملَ كلٌّ مِنّا همَّ الأسرةِ الإنسانيّةِ، كما يحملُ همَّ أسرتِهِ الصّغيرةِ.
أمّا أسرتُنا التّربويّةُ فقدْ كُنّا كَمَنْ يحملُ همَّيْنِ ثقيلَيْنِ في راحتَيْهِ وقلبِهِ: همَّ الحفاظِ على صحّةِ أبنائِنا الطّلبةِ، نواةِ غدِنا وبَذرةِ حقولِنا، وهمِّ مواصلةِ تعليمِهم؛ فوضعَتْنا الأزمةُ أمامَ خيارَيْن في منظومةِ التّعليمِ: إمّا أنْ نلوذَ بالجانبِ الأضعفِ، فنقطعَ الأجيالَ عنْ مواصلةِ تعليمِها، أوْ أنْ نختارَ أنْ نُحاربَ منْ أجلِ مواصلةِ التّعليمِ في معركتِنا الشّريفةِ الشّاقّةِ ضِدَّ الموتِ والجهلِ. كانَ التّعليمُ عنْ بُعدٍ خيارَنا الأوحدَ لإتمامِ الطّريقِ، عليْهِ ما عليْهِ، ولَهُ ما لَهُ. راهَنّا فيهِ على وعْيِ الأهلِ وحرصِهِم، وعلى صبرِ الأمّهاتِ وتجلّدِهِنَّ، وقدْ حمَلْنَ التّعليمَ همًّا، فما هدأَتْ لَهنَّ أرواحٌ، ولا استقرَّتْ لهنَّ خواطرُ إلّا وقدْ أشرفْنَ على تَعلُّمِ أبنائهِنَّ إشرافَ الخبراءِ. واتّكَأْنا فيهِ على ثروتِنا الّتي نفاخرُ بِها مٍنْ معلِّماتٍ ومعلّمينَ، ما خَذَلونا يومًا، ولا رمَوا عنْ ظُهورِهم عِصيَّ المسؤوليّةِ، وكانوا - كما عهدْناهُم - جمرَ المواقدِ في الشّتاءِ، وعرائشَ الدّوالي في قيظِ الصّيفِ، والذُّخْرَ والذَّخيرةَ، في مواجهةِ هٰذهِ الأزمةِ.
توقَّعْنا ما لقيناهُ منْ نقدٍ بنّاءٍ، وتفهَّمْناهُ، وَتقبّلْناهُ بصدورِنا الرّحبةِ المُشرعةِ، وَقدَّرْنا ما وراءَهُ منْ تخوِّفاتٍ منطقيّةٍ، كانَتْ تساورُنا مثلَما ساورَتْ أصحابَها، وَقدَّرْنا حرصَهُم، وَوضَعْناهُ في اعتبارِنا لقادمِ الأيّامِ، وتحصَنّا بكثيرٍ منَ الصّبرِ؛ لِتجاهلِ انتقاداتٍ جانبَتِ الصّوابَ والاعتدالَ، فاتّخذَتْ منَ الانتقادِ ذريعةً لتشويهِ دورِ المؤسّسةِ التّربويّةِ، والنّيْلِ منْ القائمينَ عليْها، المضطلعينَ بأعبائِها، الحاملينَ همَّها؛ لِحساباتٍ تشغلُ أذهانَ أصحابِها، ووفاضُ وزارتِنا منْها خَواءُ، ونواياها مِمّا قالوهُ بَراءُ، وكُنّا معَهم كحالِ طرفةَ بنِ العبدِ إذ قالَ:
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً عَلَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ
لكنَّ شجاعتَنا ألزمَتْنا بسلوكِ الطّريقِ الوعرةِ، في سبيلِ تخطّي هذهِ الأزمةِ، الّتي اجتهَدْنا فيها، ولَنا في اجتهادِنا أجرٌ إنْ أخطأْنا، وأجرانِ إنْ أصَبْنا.
وبعدُ:
فإنّ صحائفَ التّقويمِ قدْ نشرَتْ بشائرَها بقدومِ عامٍ ميلاديٍّ جديدٍ، يَحملُ معَهُ الخيرَ والعافيةَ والعلمَ واجتماعَ الأحبّةِ لِأردنِّنا الحبيبِ، ولِلبشريّةِ جمعاءَ، مُنتهِزينَ قدومَهُ؛ لِنكونَ كعادَتِنا دعاةَ بِشْرٍ وتفاؤلٍ، نتفاءلُ بالخيرِ فنجدُهُ في وجوهِ أطفالِنا البريئةِ، وفي بزوغِ طلائعِ الرّبيعِ بعدَ أوّلِ هطلٍ لأمطارِ الخيرِ على أرضِنا الطّيّبةِ الحَنونِ، وفي ألوانِ علمِنا الأشمِّ الّتي ما بهتَتْ، ولا توقّفَتْ عنِ الخَفقِ معَ خَفقِ صدورِنا العاشقةِ.
كلُّ عامٍ وهذا الأردنُّ عزيزٌ بأهلِهِ وصبرِهِم، عَصيٌّ بقيادتِهِ وصلابتِها، مَحْميٌّ منْ ربِّ البيتِ، وإنّهُ نِعمَ المولى ونِعمَ النّصيرِ.