الزحف نحو المجهول : عالم ما بعد 2020
سوف يدخل عام 2020 تاريخ البشرية بإعتباره العلامة الفارقة بين عالمين أحدهما قديم نعرفه ، والآخر جديد لا نعرفه . لا أحد يعلم بالضبط ما في جعبة عام 2021 ، وإن كان الجميع ينشد ما فيه الخلاص من وباء الكورونا وتبعاته . ولكن الأمر لم يعد محصوراً بالوباء بقدر ما أصبح يتعلق بأثر ذلك الوباء على طبيعة الحياة وأنماطها والعلاقات بين البشر .
إن ما يميز وباء الكورونا عن ما سبقه من أوبئة ألمَّت بالعالم والبشر هي في عالميته بحكم سهولة وسائل التواصل والتنقل وبالتالي سرعة وعالمية انتشار ذلك الوباء ، وهنا تكمن خطورته . الاجراآت المرعية ومنها التباعد الاجتماعي والامتناع عن التواصل والحميمية هي في واقعها محاولة للحد من الآثار الوبائية المترتبة على سهولة التنقل والتواصل التي امتاز بها العالم بشكل تصاعدي منذ بداية القرن العشرين . أما الصعوبة فتكمن في محاولة إدارة عجلة التاريخ الى الوراء والتوقف عن السماح للبشر بالتواصل الحميمي السهل . لا يوجد دواء دون آثار جانبية ، وكذلك التباعد الاجتماعي . وعبقرية الانسان الذكي تتجلى في مقدرته وقدرته على ايجاد التوازن بين السلبي والايجابي لأن أي إخلال بذلك التوازن قد تكون عواقبه كارثية .
الحقيقة المؤلمة أنه بغض النظر عن مصير جائحة الكورونا التي ألمت بالعالم أجمع ، فإن هذا العالم الذي عشناه ونعرف ثناياه وخباياه لن يعود كما كان ، لا في طبيعته ولا في أولوياته ووسائله . واذا كان هنالك من يعتبر أن في ذلك خسارة لا تعوض ، فإن مثل هذا الاستنتاج قد لا يكون بالضرورة صحيحاً كل الصحة أو مخطئا ً كل الخطا . الخسارة هي في ذهن الاجيال التي عاشت عالم ما قبل الكورونا وفرحت وحزنت ، وخافت واستكانت ، ونجحت وفشلت ، ولكنها بقيت أسيرة الخوف من المجهول القادم الذي نعلم بعضه ، ولكننا نجهل معظمه ومعظم أبعاده . أما الأجيال الجديدة فإن قناعاتها ما زالت قيد التشكيل ، وقد تنسجم جزئياً أو كلياً مع ما هو قادم من تغييرات . ولكن من الواضح أنه سيكون عالما ً أقرب الى مفاهيم تلك الأجيال الجديدة وقدرتها على فهم واستيعاب التكنولوجيا والمتغيرات المرافقة للحياة عن بعد ، والتعامل معها بأريحية وسهولة تفوق قدرة الأجيال الأكبر سناً على فعل ذلك .
عالم ما بعد الكورونا ما زال مجهولاً بالنسبة لنا ، ولكن المؤشرات تشير الى أنه سوف يكون أقل إنسانية وأقل حميمية واكثر فردية و إنعزالأ و بروداً في عواطفه مما تعودنا عليه في العالم الذي نعرف . التباعد الاجتماعي الناتج عن وباء الكورونا وما تبعه ونتج عنه من عمل عن بعد ، ودراسة عن بعد ، وجامعات عن بعد ، واختلاط وتخالط عن بعد ، قد حَوَّلَ الانسان من كائن إجتماعي الى كائن إنعزالي . قناعات الانسان واهتماماته سوف تصبح بالنتيجة فردية وليس مجتمعية ، والمسؤولية الاجتماعية سوف تصبح بالتالي إنعكاساً لأولويات الفرد وإهتماماته وليس العكس .
الحياة التي نعرفها ابتدأت تفقد معناها و كذلك الموت . لا فرح للناس ولا عزاء لهم أيضاً . الحياة فقدت طعمها اللذيذ والموت فقد طقوسه وروحانياته ورهبته . لقد ماتت الحياة التي نعرفها و مات معها أيضاً الموت كما إعتدنا عليه . ويتساءل الجميع عن كنه هذا العالم الذي ينتظرنا وينتظر الأجيال الجديدة . هل سيكون خطوة الى الأمام أم خطوات الى الخلف أم حصاد ردئ لكل ما فعلناه من سوء لهذا العالم وبه ؟
نحن في الحقيقة بصدد عالم موحش في طبيعته وفي علاقاته الانسانية . ماهو مصيرالحب والمحبة والصداقة وهي أسمى العواطف الانسانية التي تحكم العلاقات بين البشر في ظل عالم متباعد؟ هل يوجد حب عن بعد مثلاً ، وماهو مصير علاقات المحبة والتواصل بين البشر وبين الاقارب ضمن اطارالعائلة الواسعة ؟ ما هو مصير الصداقة وهل ستبقى كما نعرفها ؟ وماهي البيئة الحاضنة للصداقة في ظل عالم متباعد ؟ ماهو مصيرالجامعات كحاضنة للصداقة والحب بين أبناء الجيل نفسه ؟ هل تكتمل العملية التعليمية عن بعد ، أم أنها تحتاج لحاضنة بشرية حتى تكتمل ؟
ما هو مصير الطموح والآمال في عالم يلتقط فيه بقايا البشر فتات ما تبقى من العالم الجميل . هواؤنا أصبح مسموماً ، وكذلك مياهنا ، وأرضنا تقترب من فقدان خيراتها الطبيعيه لصالح الأسمدة ، الطبيعة في إضمحلال والحياة البرية إلى زوال . لقد فقدنا الحدود التي تفصل فصول السنة عن بعضها البعض ، واختلط على البشر ربيعهم وصيفهم وخريفهم وشتاءهم لتصبح أجواؤنا مزيجاً عشوائياً قبيحاً من هذا وذاك والى الحد الذي فقدت فيه الفصول خصائصها المميزة مما جعل حتى النباتات غير قادرة على التمييز بين الفصول .
الحرية التي ينشدها الجميع سوف تصبح أقل أهمية ووضوحاً ضمن أجواء الانغلاق و التباعد والانعزال والفردية . فالحرية مع أنها ممارسة يومية إلا أنها تبقى في جوهرها قضية معنوية ومبدأية ونفسية ووجدانية. ومع أن الأمرين مترابطين ، إلا أن الشق المعنوي هو الأساس كونه يمس روح الانسان وقناعاته ومبادئه . وقد يكون في التمادي في تطبيق التباعد الاجتماعي بظواهره المختلفة المدخل لبطش وجبروت الدولة وبما قد يجعل من رؤيا "جورج أورويل" في كتابه الشهير "1984" واقعاً قابلاً للتحقيق عندما يصبح الفرد الانسان خادماً للدولة عوضاً عن كونه مواطناً فيها . وقد نشهد عزوفاً متزايداً عن ممارسة حق التصويت في الديموقراطيات التاريخية إما نتيجة لفقدان الفرد للإهتمام بالشأن العام ، أو نتيحة لقناعته بعدم جدوى ذلك في ظل حياة التباعد والانعزالية . التباعد والانعزالية سوف تفتح الباب أمام دكتاتورية الدولة ومتطلباتها في الخضوع التام والخنوع والانضباط والذي إبتداً تحت عنوان السيطرة على الوباء .
العالم الآن وإن كان يبكي حزناً على نفسه وحسرة على ما فقد ، وخوفاً ووجلاَ مما هو آت ، إلا أن الأمور قد لا تكون بالسوء الذي نخشاه . وقد يكون ما نحن فيه شئ أقرب الى آلام المخاض المرافقة لولادة عالم جديد نجهل ماهيته ، وإن كانت المؤشرات تشير إلى أنه سيكون عالماً بارداً وقاسياً مقارنة بالعالم الذي عرفناه . المستقبل قد لا يكون بنفس السوء بالنسبة للأجيال الجديدة من البشر . فهذه الأجيال ستكون نتاج العالم الجديد بكل سلبياته وايجابياته ، وقد ترى تلك الأجيال في عالمها الجديد ما ينسجم أكثر مع مفاهيمها وتطلعاتها وأولوياتها .
هذه تساؤلات وخواطر تنتظر الإجابة من بشر عاشوا في عالم جميل ولكنهم أساؤا إليه في سلوكهم ونمط إستهلاكهم وحولوه الى عالم قبيح مجرد من العواطف خالياً من الانسانية المبنية على التكافل و وحدة المصير . صحوة البشر على ما فعلوه بأنفسهم ولأنفسهم قد تكون فيها البداية لإعادة بناء عالمنا الجميل الذي جعلناه قبيحاً . الحل يكمن في عودة الاحترام للطبيعة وتوازنها وللعلاقات الانسانية الجامعة لأبناء البشر في عالم ساده العنف والأنانية واللامبالاة .