بيان الثقة: العجب العجاب في علم النثر والانشاء
الانشاء عند اهل العربية يطلق على الكلام الذي لا يمكن تصديقه او تكذيبه.. وعلم الانشاء هو فن تأليف المعاني وتنسيقها والتعبير عنها وفقا لمقتضى الحال.. لم اكن اصدق انني وانا اقرأ البيان الوزاري لحكومة الدكتور بشر الخصاونة المرة تلو الاخرى، لم استطع ان اختلف معه باي محور من المحاور، كما انني لم اتمكن وانا القارئ الحاذق من ايجاد مثلبة او ثغرة في هذا النص الانشائي الطويل المتماسك والمتسلسل والشامل، لم يترك البيان صغيرة او كبيرة الا واحصاها، المربك حقا ان البيان الوزاري تطرق لكل شيء الا انه لم يقل شيئا على الاطلاق..
الخصاونة قال، ويبدو انه كان فعلا يقصد ذلك، بان البيان الوزاري يتضمن الخطوط العامة التي ستسير عليها الحكومة، وستترجم حكومته البيان فيما بعد الى برنامج تنفيذي مفصل ومحدد بمواقيت زمنية واجراءات فعلية ومؤشرات تدلل على حجم الانجاز حتى نتمكن من مراقبة اداء الحكومة. اذن ماذا تضمن البيان اذا خلا من برامج ومواقيت واجراءات واولويات ومؤشرات انجاز؟
اذا البيان الوزاري ما هو الا خطوط عامة وعريضة تصلح لكل زمان ومكان، انشاء لا يمكنك ان تكذبه او تصدقه، او تختلف معه، فهو عبارة عن عناوين عريضة، يمكن لرئيس وزراء لبنان مثلا ان يقرأها على شعبه ومجلس نوابه، يمكن لرئيس وزراء زمبابوي او زامبيا او حتى بنغلادش ان يستعين بهذا النص المانع الجامع، الذي يتضمن كل شيء وهو فعليا لا يقول شيئا، ناهيك عن ان الخصاونة التبس عليه الامر وهو يتلو بيانه الوزاري، حيث تضمن البيان الكثير من الشرح عما قامت الحكومة بفعله منذ تسلمها للسلطة، معتبرا هذا الاسهاب جزء لا يتجزأ من بيانها الوزاري الذي يفترض ان يتضمن كل ما تنوي الحكومة ان تفعله وتنجزه وتحققه في قادمات الاشهر والايام!
السؤال المهم ونحن نعاود قراءة البيان الوزاري للمرة الواحدة بعد المئة، ماذا فهمنا؟ و كيف ستنهض الحكومة بكل هذه القطاعات وتنفذ كل هذه الالتزامات؟ كيف ستترجم الحكومة كل هذه التعهدات الى انجازات على الارض؟ ثم ما هي الاولويات اذا كانت الحكومة وفي هذا الظرف الصعب وتحت وطأة الضائقة المالية الخانقة ستنفذ كل هذه الاهداف في ان معا؟ يبدو ان الحكومة تقع في فخ تكبير حجرها -ايهامنا بانها قادرة على تنفيذ كل هذه الالتزامات-، وهي بذلك لن تضرب ابدا، او لن تحقق هدفا واحدا صغيرا كان ام كبيرا!
وهذا بالضرورة يقودنا الى السؤال الاهم : بناءا على ماذا سيمنح نواب الامة ثقتهم بهذه الحكومة وقد خلا بيانها من خطط وبرامج ورؤى واولويات ومشروعات بعينها ، فماذا يمكن ان نفهم عندما يقول الخصاونة على سبيل المثال لا الحصر:
- تلتزم الحكومة بما أُسند إليها في كتاب التكليف السامي وخطبة العرش بتطوير المنظومة التربويّة في سبيل تحقيق أهدافنا الوطنيّة…..
- ولا يفوتني عند الحديث عن العمليّة التربويّة أن أشير إلى مركزيّة مؤسّسات التعليم العالي والجامعات على وجه الخصوص، كمنارات علم ومعرفة….
-وستطلق الحكومة البرنامج التنفيذي للأعوام 2021 – 2024م، الذي يتضمّن منهجيّة شاملة للتعامل مع مختلف القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة والماليّة والسياسيّة، وفقاً للأولويّات الوطنيّة في مختلف القطاعات…..
ويهدف هذا البرنامج إلى زيادة التنافسيّة للقطاعات الإنتاجيّة، سعياً إلى تحقيق معدّلات نموّ اقتصادي بمستويات مقبولة، تسهم في خفض معدّلات البطالة، إلى جانب زيادة تدفّق الاستثمارات المحليّة والأجنبيّة……
- واستجابةً للتوجيهات الملكيّة السامية، أنجزت الحكومة وثيقة تسعى من خلالها ليكون الأردنّ مركزاً إقليميّاً للأمن الغذائي…….
- كما تعمل الحكومة على استكمال البنية التحتيّة الرقميّة والمتكاملة، التي ستدفع عجلة التحوّل الرقمي في المملكة ومشاريع التنمية الاقتصاديّة، وبناء الاقتصاد الرقمي، وتحقيق أهداف الاستراتيجيّات والخطط والبرامج والمبادرات الحكوميّة الطموحة…..
وسيتمّ تطبيق ذلك من خلال تقنيات الحوسبة السحابيّة، والذكاء الاصطناعي والإنترنت عريض النطاق المتنقّل والثابت، وإدارة البيانات، وتوفير المزيد من فرص التشغيل لأصحاب الكفاءات خاصّة في مجال تقنيّة المعلومات والاتصالات والتجارة الإلكترونيّة…….
- ستعمل الحكومة بالشراكة مع مجلسكم الكريم على الاستمرار في تطوير الحياة السياسيّة ومسيرتنا الديمقراطيّة، عبر بوابة الحوار، بما يضمن توسيع مشاركة المواطنين في الحياة السياسيّة وصنع القرار الوطني، ورسم المستقبل……..
ولو! كل هذه الالتزامات في آن معا..
ما رأيكم بهذه الاضافة من كاتب هذه السطور في السياق ذاته:
- تلتزم الحكومة برفع سوية اداء كوادرها وفرقها والايدي العاملة وغير العاملة الى الحد الذي تكون فيه قادرة على تنفيذ كل هذه الرؤى والاهداف ، وتكون فيه قادرة على تسوية المديونية وسداد عجز الموازنة ، وحل مشكلتي الفقر والبطالة في اطار زمني سيجري وضعه فيما بعد ، ناهيك عن نيتها اطلاق الحريات العامة والشخصية واحترام حقوق الانسان ، كيف لا وقد قالها الخصاونة في بيانه الوزاري وبعد ايام معدودة من حادثة اعتقال الصحفي جمال حداد "سنقوم بملاحقة المعتدين على حقوق الناس دون تهاون.”.
و الله هذا مبالغ فيه جدا.. على رسلك ايها الرئيس، فنجمنا خفيف و قد سئمنا من متابعة نفس المشهد في كل مرة...
اذن يمكن للرئيس الخصاونة ان يضيف ما يشاء من خطوط عريضة لبيانه الوزاري، كما يمكننا ان نضيف نحن ايضا، فما المانع اذا كان بيانه عبارة عن استحضار مكثف لجميع التعهدات والالتزامات التي جاءت على لسان رؤساء الوزراء الاردنيين السابقين في بيانات الثقة التي قاموا بتقديمها لمجالس النواب المتعاقبة، لا سيما ان الخصاونة وضح في مقدمة بيانه الوزاري ان كل ما سيقوله لا يعدو كونه خطوط عامة وعريضة سيتبعها تقديم برامج وخطط تنفيذية بمواقيت ومؤشرات قياس.. لن يسأله سائل عن عذاب واقع، ولن يحاسبه احد اذا ما لم يلتزم بما تعهد به لنواب الامة تحت قبة البرلمان.
نحن في هذه العجالة لا نقصد ان نحط من قيمة البيان الوزاري، وهو في الحقيقة نص متعوب عليه، ولا ننوي ان ننزله من عليائه، ولكننا حاولنا ان نحاكم النص، فلم نستطع ذلك، كون البيان الوزاري عبارة عن انشاء لا يمكن تصديقه او تكذيبه، وبحاجة الى الاجابة على سؤال واحد فقط : كيف يمكننا ان ننفذ هذه الالتزامات كلها يا دولة الرئيس؟!!