اليعيزر بن يهودا وقدسية اللغة
يعتبر اليعيزر بن يهودا ( ١٨٥٨-١٩٢٢ ) الرائد الحقيقي في عمليةاحياء اللغة العبرية الحديثة حيث ساهمت نشاطاته في هذا المجال في نشوء الهوية الصهيونية التي تم توظيفها لبناء رباط قومي يضم مختلف الطوائف اليهودية المنتشرة في ارض الشتات وذلك تمهيدا لتحقيق الحلم الصهيوني الهادف لانشاء دولة يهودية في فلسطين . وهكذا فان عملية احياء اللغة العبرية لم تقتصر على كونها عملية لغوية فقط ، وانما كانت جزءا من حالة فكرية مرتبطة بنشوء الايديولوجية الصهيونية وتاسيس الدولة اليهودية فيما بعد.
نشا بن يهودا في اسرة تنتمي لفئة يهودية ذات مركز اجتماعي واقتصادي متميز في مدينة لوتسكي باقليم لتوانيا الذي كان تابعا لروسيا انذاك . وقد وقع في بداية حياته تحت تاثير الاراء الثورية التي كانت منتشرة بين المثقفين الروس وخاصة العدميين Nihilists منهم . وقد استهوته الافكار التي طرحتها الحركة القومية الروسية انذاك المعروفة باسم نارودنيكي Narodniki ( اي العودة للشعب ) . كما حاول ايضا تقليد الفكرة القومية التي كانت تطرحها الحركة السلافيةوذلك بالدعوة الى قومية يهودية على نحو مماثل لها . وهكذا فاننا نجد بن يهودا قد سبق غيره من المفكرين اليهود الروس بتبنيه الحل القومي متاثرا بمضامين الطروحات القومية التي كانت تتفاعل في اوروبا انذاك شرقيها وغربيها . وانتقد بن يهودا من جانبه بشدة دعاة القومية الروحية التي كان يتزعمها بيرتس سمولينسكين معتبرا اياها دعوة غير مادية وغير عملية ولا تستطيع التجاوب بفعالية مع المعاناة المادية اليهودية ، اضافة الى انها لا تستطيع استقطاب وكسب ولاء الجيل الصاعد من شباب اليهود .
اما بالنسبة للمفهوم القومي لدى بن يهودا فقد طوره وميزه عن مفاهيم من عاصره من اقرانه المفكرين ، وقد عبر عن ذلك بقوله : ... هناك ثلاثة اشياء محفورة باحرف من نار على راية القومية : وطن، لغة قومية ، تراث وثقافة قومية . فبالنسبة للوطن دعا الى انشاء جمعية استيطان يهودية بحيث تكون مهمتها شراء اراض في فلسطين وتوطين اليهود فيها من اجل بعث الوجود اليهودي مجددا في المكان الذي وصفه بانه الوحيد المناسب لذلك والذي اعتبره وطنا قوميا لا بديل له للشعب اليهودي . وظل اليهود - في نظره - يشكلون وحدة قومية متكاملة بفضل ديانتهم وعزلتهم ، ولكنه حذر من ان الشعور الديني بدا يضعف بين اليهود في اواخر السبعينات من القرن التاسع عشر ، كما انهم بداوا يخرجون عن نطاق العزلة وباتوا مهددين بالانصهار في الشعوب الاخرى ، ولذا فقد دعا الى تكثيف الجهود الداعمة لنشاط جمعية الاستيطان اليهودية في مهمتها التوطينية .
غير ان معظم جهود بن يهودا نجدها قد انصبت على احياء اللغة العبرية ،حيث كان يردد دوما بانه لا وطن بدون لغة ولا لغة بدون وطن ، وقد عمل جاهدا على تحويلها من مجرد لغة مكتوبة خاصة بالطقوس الدينية الى لغة منطوقة ومحكية تستعمل في الحياة اليومية لتصبح لغة اليهود القومية اسوة باللغات القومية للشعوب الاوروبية المختلفة ، وانتقد بن يهودا استبدال اليهود لغتهم العبرية بلغات محلية اخري وقال : ...ان احياء اللغة العبرية سيكون بمثابة الموشر على ان بعث الامة اليهودية بات وشيكا ولن يتاخر اكثر ( Jay Y Gonen, A Psycho-History of Zionism , pp. 10106 ) . وقد اعتبر بن يهودا التشتت نتيجة طبيعية لعدم توفر لغة موحدة ، فاضطراب الالسنة - على حد قوله - ادى الى تشتت اليهود في شتى ارجاء الارض ، كما اضاف بانه طالما ان اضطراب الالسنة قد ادى الى التشتت فان احياء اللغة الموحدة وبعثها يودي - في نظره - الى اعادة التجمع والتوحد . وقد بين بن يهودا ان من بين اهداف احياء اللغة العبرية ايضا حماية اليهود من خطر الاندماج والانصهار في المجتمعات التي يعيشون فيها نتيجة فقدانهم لغة الاجداد واستبدالها باللغات المحلية لتلك المجتمعات وخاصة اليديشية ( لغة اليهود الاشكناز في اوروبا وهي مكونة من الجرمانية والعبرية وبعض اللغات الاوروبية الاخرى ) واللادينو ( لغة اليهود السفارديين وهي مكونة من الاسبانية والعبرية ) . كما ان بن يهودا ابدى استغرابه الشديد من تجاهل الكتاب والروائيين اليهود ما تختزنه اللغة العبرية - لغة التوراة - من موروث ثقافي خصب يوفر لهم العديد من الصور التاريخية للمزايا والسجايا الايجابية كالاقدام والشجاعة .ّ* التي كان بن يهودا يرددها ويتغنى باصحابها كبطل التوراة يوشع بن نون ومنفذ مذبحة الكنعانيين في اريحا وغيره من الغزاة ورجال الحرب اضافة الى كبار الاثرياء ورجال المال اليهود ، وذلك سعيا وراء استخدام هذه الصور المضيىة للسلوك اليهودي بدلا من الصورالنمطية التقليدية لهذا السلوك وما يعكسه ذلك من مكر وخداع وبوس ، ( المصدر نفسه ) . واخذ بن يهودا يعمل من جانبه على ابراز صورة الشعب اليهودي بصفته شعب الله المختار الذي ميزه الاله يهوة عن باقي شعوب الارض وعن كل المومنين في العالم ، فهو - وفق ما كان يردده بن يهودا واقرانه - شعب يتمتع بالقداسة ولغته.مقدسة والارض التي تطاها اقدامه ويستقر عليها تتحول لا محالة الى ارض مقدسة ( امين اسكندر ، دور الثقافة العبرية في الثقافة السياسية الاسرائيلية ، البيان ) ، كما ان حروب هذا الشعب بما فيها حروبه العدوانية ضد السكان الاصليين سواء كانوا عرب فلسطين او عرب الدول المجاورة فانها تعتبر حروبا مقدسة اعتقادا منه انها تستند الى نص الهي مقدس . وفي تعليق لرشاد الشامي حول هذا الموضوع يقول : ... هذه النصوص التوراتية التي تغذي الوجدان الاسرائيلي بمبررات العنف والقسوة والوحشية الحيوانية ، تدرس في المدارس الاسرائيلية دون ان تحظى باي معالجة نقدية تذكر ( رشاد الشامي ، الشخصية اليهوديةالاسرائيلية والروح العدوانية ، ص ١٧١ ) ..
ولكن اهتمام بن يهودا باللغة العبرية جلب عليه لعنة اليهود الارثوذوكس الذين كانوا يعتبرون اللغة العبرية لغة مقدسة لا يجوز استخدامها الا في الصلاة ، ولا يجوز استخدامها في الحياة اليومية ، فما كان من بن يهودا الا ان دخل معهم في مناظرات ومجادلات كثيرة ، ترتب عليها ان وصموه بالكفر والالحاد ، بالرغم من انه لم يختلف معهم في رمزية اللغة وقدسيتها ، الا انه عارض فقط حفظها وقصر استخدامها ا في اماكن وكتب العبادة فقط ، وطالب بتحويلها الى لغة متداولة في الحياة اليومية بشكليها المكتوب والمنطوق على حد سواء . ورغم ذلك كله فان بن يهودا اضطر في النهاية الى تجاهل منتقديه ومهاجميه من اليهود الارثوذوكس واستمر في استكمال عمله في احياء اللغة العبرية وتطويرها ، فاخذ في تحديثها واثراىها بمفردات جديدة لتتمكن من تلبية احتياجات الحياة المعاصرة . ووجد ان افضل الحلول هو وضع قاموس شامل لجميع كلمات اللغة العبرية عبر التاريخ قديمه وحديثه اضافة الى التجديدات التي وضعها هو نفسه وذلك ليكون مرجعا لمن يريد تعلمها ودراستها . وقد امضى بن يهودا مدة تزيد على الاربعين عاما وهو يعمل على اخراج هذا القاموس معتمدا في ذلك على دراسته للتلمود والمخطوطات العبرية بشتى اشكالها . وصدر من هدا القاموس سبعة عشر مجلدا ، كان منها خمسة مجلدات قبل وفاته عام ١٩٢٢ .
وهكذا قام بن يهودا بدور محوري في احياء اللغة العبرية بحيث اصبحت تشكل رمزا للهوية الصهيونية وضالة لغوية للمهاجرين اليهود الذين بداوا يتدفقون على فلسطين منذ اواخر القرن التاسع عشر متخذين منها لغة موحدة قادرة على تجميع الشتات اليهودي وتوظيفها في التعبير عن الشخصية القومية اليهودية العنصرية بكل ما تحمله من دلالات وايحاءات صهيونية عدوانية .