الاكتشافات الأثرية وسط العاصمة.. ماذا بعد وقف العبارة الصندوقية؟!
وهكذا ينضم الموقع والاكتشافات الأثرية التي رافقت أعمال الحفريات ضمن أحد مسارات العمل في مشروع العبارة الصندوقيّة بمنطقة وسط العاصمة عمّان إلى القائمة الرسمية للمواقع والقطع الأثرية المسجلة، في دفاتر الحكومة، والمنسية على أرض الواقع!!.
نعم، النسيان والإهمال، هما ما سيؤول اليه حال الموقع والاكتشافات الأثرية وسط العاصمة عمان، بعد ان حسمت الجهات المعنية أمرها وقررت تغليف وإعادة تغطية الحمام الروماني وتوثيق المكتشفات الأثريّة من فخاريات ومنحوتات رخامية ، ونقلها إلى المستودعات "الآمنة والمتخصّصة".
وعبثا تحاول الجهات المعنية بث الطمأنينة في نفوسنا، بأن هذه الآثار لن تهمل او يطويها النسيان، ولن نصدق زعمها "الابقاء على خيار تطوير هذه الآثار مستقبلاً عندما تتوفر الامكانيات المناسبة" ، ذلك أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ومن السياق العام نعلم حال آثارنا ومدى اهمالها والتقصير في حمايتها ورعايتها!!.
واجدد التذكير اليوم بالأرقام التي تؤكد حال آثارنا المحزن الذي لا نحسد عليه، ويغضب البعيد قبل القريب، والعدو قبل الصديق، إذ تشير مصادر مختصة إلى أن عدد المواقع الأثرية المسجلة رسميا بلغ (١٥) ألف موقع، وان عدد القطع الأثرية المسجلة ( ٢٠٠) ألف قطعة، منها ( ٢٠٠٠) معروض في المتاحف، وأن هناك حوالي ( ٢٨٧٧) موقع تراثي متضرر وفقا لمختصين.
وبعد، اهناك من يشك بأن آثارنا مهملة ومنسية؟! وهل تستطيع الحكومة اقناعنا بأنها حريصة على هذه الآثار الجديدة المكتشفة اخيرا في وسط العاصمة، وانها ستعمل على تطويرها عندما تتوفر الامكانات؟؟ وهل من المنطق والعقلانية والحكمة ان تطمر هذه الاكتشافات بعد أن كشفتها الصدفة وليس البحث الممنهج عن كنوزنا الدفينة ؟! أليس من حق الشعب ان يطمئن بأن آثاره بخير ومحفوظة وانها بأيد أمينة بعيدا عن متناول اللصوص وحرامية الآثار وباعة التاريخ من تجار الليل!؟.
حسنا فعلت أمانة عمّان الكبرى ووزارة السياحة والآثار عندما قررتا بناء على توصيات اللجنة الاستشاريّة المتخصّصة وقف العمل نهائيّاً في مشروع العبارة الصندوقية بعد الاكتشافات الأثرية، لكن من المؤسف والمخجل ان نضيع هذه الفرصة الثمينة والاكتشافات القيمة باعادة دفنها وردم التراب فوقها، وإصدار شهادة وفاة لمولود فتح للتو عيونه على الحياة ، وهذه جريمة لا تغتفر!
هي حقا جريمة لا تغتفر، فنحن إزاء اكتشافات أثرية واعدة، اذا ما استثمرناها بشكل جيد، واستكملنا عملية التنقيب حتى بلوغ أهدافها، إذ أكّدت نتائج المسح الجيوفيزيائي الذي أجرته دائرة الآثار العامة بالتعاون مع الجامعة الهاشمية للمسار المتبقي من المشروع وجود بقايا أثريّة كثيرة في المسار، وأسفل الشارع، وأنّ هذه البقايا الأثريّة تمثّل مظاهر معمارية لأقبية وجدران وأرضيّات تحتاج إلى أعمال تنقيب أثري ودراسات.
ندرك الظروف الاقتصادية الصعبة، والضائقة المالية التي يمر بها بلدنا، ونعلم ان استمرار التنقيب في المنطقة والموقع المكتشف يحتاج إلى إمكانات مالية، يتعذر توفيرها في الموازنة العامة للدولة التي تعاني عجزا عن تلبية احتياجات اكثر الحاحا، لكن من المعيب إعادة دفن هذا الاكتشاف بعد أن شاهده العالم وشهد عليه.
وأمام الجهات المعنية عديد من الخيارات المتاحة لإيجاد التمويل اللازم لاستكمال التنقيب، ولعل في مقدمتها التواصل مع المؤسسات والهيئات والمنظمات الدولية التي تهتم بالاثار والمواقع الحضارية والتاريخية للحصول على الدعم الفني والمادي اللازم لاتمام هذه الولادة، ذلك أن الإجهاض عن قصد وتعمد يعد جريمة يحاسب عليها القانون!
وأكثر ما يؤلم عند الحديث عن الآثار، أن العالم يعرف آثارنا ويدرسها ويحرص على التنقيب عنها، في الوقت الذي نكتشفها وتخدمنا الصدفة في ايجادها، والمفارقة اننا نسعى جاهدين لطمرها وحين لا نفعل نتركها لمصيرها المحتوم، الإهمال والنسيان!
وفي هذا السياق تحضرني واقعة تعود إلى عام ١٩٨٣، حين كنت طالبا على مقاعد الدراسة الجامعية ، حينها سألنا استاذ الانثروبولوجيا الأمريكي : هل تعرفون تل الحصن؟ من بين الطلبة، تنطحت للإجابة باعتباري احد سكان الحصن الأصليين، فسألني : ماذا تعرف عن التل؟ اجبته انه مقبرة لدفن الموتى!. إلى يومنا ما زال صدى ضحكته يصدع في اذني ويربكني كلما وقعت عيناي على التل الذي اشاهده من شرفة منزلي ولا اعرف عنه حتى النزر اليسير مما عرفه ذاك الاستاذ الأمريكي قبل زهاء أربعين عاما، وكم شعرت يومها بالخزي والخجل.
على اي حال، فإن تل الحصن على بعد 8 كيلو مترات إلى الجنوب من مدينة إربد في القسم الشمالي من بلدة الحصن تبلغ مساحته 99 دونمًا، وكشف التنقيب فيه عن مجموعة من الآثار كان أهمها المسجد الأموي والحصن الأموي إضافة إلى قطع أثرية تدل على حياة في التل تعود إلى حوالي ٤٠٠٠ سنة قبل الميلاد.
لكن كل ذلك لم يغير الصورة التي اعرفها واشاهدها صبح مساء، وهي ان التل ليس إلا مقبرة يسكنها الأموات ويعرفون ما بداخله من كنوز وآثار نحن الأحياء ووزارة السياحة والآثار غافلون عنها!!.