الاسير المحكوم مؤبد كنعان كنعان يكتب: تِبول شورِش
كتب الأسير المؤبد كنعان كنعان -
في صباح الحكايات الآثمة بحب الوطن، الحكايات التائهة التي ضلّت الطريق إلى حناجر رُواتها، عن وطنٍ ضربوا معه مواعيد، فغابوا على مرمى حجرٍ منه، في رُبعه المنفي حقيقةً وذكرى، عن زيتونة الدار شربت من دماء أصحابها حتى ثملت، وهل التوت هناك إلاّ هذيان الأشجار على الغائبين!؟ عن جُرحٍ ينكَؤها كلَ صباح، وهل هديل الحمام هناك إلاّ تاريخ لمذبحة إنسانية أسطورية معاً؟؟!
كان صوت الكلاب يتعالى على غير عادته، من خلف جدارٍ حديدي، يفصل بفشلٍ ذريع زمجرة رياح تشرين الباردة عن شِباك زنزانته بذراعين، وهذه الفسحة التي يرى من خلالها الدنيا على ألوانها، الأحلام، الفصول الأربعة بلون الصفيح والأسلاك الشائكة والحصى، فراحت تصهل فيها ذهاباً وجيئةً دون رادع، منذرة بنذائر الشؤم والوعيد، فهذا وقتهم وتلك هي مقدماتهم وكأنه يرد قضائِهم بتكوّره على نفسه في وضعية جنينية، متدثراً على آخره بغطائه، لألا يُبدد دفئه كالحقيقة القادمة، في محاولة يائسة بِزَرْع الوهم في جُرم الواقع، بأنه يحلم وقد صَحُوَ من كابوسه وعودته إليه على أن يكون في اليقظة، أغمض عينيه بقوة علّه ينفي وجودهم، كبّل الثواني والدقائق فتحوّلت إلى ألم، وتحوّل الألم إلى حزن، والحزن إلى صمت، والصمت إلى وحدة شاسعة بدت لا متناهية يقول:
هو اللهُ، ما لنا في غربتنا من غيره إلاّهُ، رُفعت كل الأذرع ابتهالاً، علّه يرد القضاء مرضاهُ، لا تنتظر الكثير!! فشعوب العُربِ ذُلّت وهي تنتظر نجداهُ، يأتيك أحمقٌ تكرّش، جالساً على كرسيه الدافئ، لا ينقصه شيئاً، إلا طبقة أخيرة من الدُهن على مُحيّاهُ، وهو يشتمك، كافراً أنت وداعر، يا زنديق، ويا ويا ويا... مُستهتراً بقضاهُ، ألم تقرأ في كتب الأولين يا منسيّ، أن الله إذا أحب عبداً ابتلاهُ، وطائرات الخليج جعلت من مسجداً في عيده، في الحُديدة في اليمن الحبيب، فقتلت كل من فيه شيخاً، امرأة، عجوزاً، شابةً، مرضعةً وسبعون طفلاً مرماهُ، وبيسانُ الطفلة الفجيعة الجميلة التي كانت،لا زالت تحت الردم هناك في إدلب، تحضنها لعبتها، وقد قُطِعت يداها، من فتحةِ قَدَر تنظر إلى السماء، واقسمُ بأنك ستسمعها كما سمعتها هنا في زنازين العدو بقلبك إذا أَصغيت، تلعن كل من خان وتآمر وطبّع، العَلويين والسلفيين والعثمانيين والزَيديين والربانيين والعجم والبجم والبعارين والغنم، وتُقرأ السلام على الأرواح الميتة المدفونة في الأجساد التي أدمنت الخنوع والانحناء، شاخصةً بعينيها لا تستغيث بأحد، تدعو كل شيء إلاّهُ، فصحيحُ ما قيل إن من الحب ما قتل!! فسبحان الذي سلّط علينا اسرائيل وأذنابها رحمةً، وما كنا بيوم قد خذلناهُ.
كالسقوط وفوضاه مرت تجربة الأمس، كشريط سينمائي وُضع على عجل، أو كقلع ضرس سليم من فم موجوع بكماشة صدئة، فلا تستوحش التعبير فكل العملية اقتلاع وألم، إمعاناً بالسطوة والكراهية والاستهتار بحياة وكرامة الأسير العربي الفلسطيني، فكيف والمعنى الحرفي لـ "تِبول شورِش"، وهي كلمة عبرية بالمناسبة والتي تعني انتزاع عصب الضرس من جذوره، والذي يُمارَس على الأسير وما يصاحبه من وجع، بدون تخدير أو مقدمات للضرورة المقصودية من لحظة انتزاعه من فراشه الدافئ حتى عودته إلى ضرسه أي زنزانته، دهراً دهرين وما يفصل بينهما...
سَرت رعشة فيه لعلها من الخوف، البرد، الخذلان، اليأس، أو الأمل بالحرية ولقاء الأحبة، كلها كانت مجتمعة لدرجة أنها جعلت الهواء من حوله لزجاً كثيفاً تقطعه بسكين، وقد مرّ عام على تلك الطقوس الإجرامية المهلكة كيف ساروا على وقع السلاسل والأصفاد وهي تصطق بنفسها وترتد على أرجلهم وأيديهم وتُدميها، هو ومئة وعشرون أسيراً غيره، عبر الممرات والدهاليز يرقبهم طوابير من الحاقدين على الجانبين منهم للحظة الانقضاض، يقتادونهم إلى أقفاصٍ وزنازين الانتظار والتي تتلمظ زجهم بها، ولدهرٍ تشعر أن كل من حولك تحالفَ ضدك وتآمر، حتى جدرانها المبتلة برطوبة أنفاس المقيدين ضدك، لا يكفي نتوءها وكأنه، فقطرات الماء السائلة تُحرّم عليك حتى الاستناد إليها، وكأن العصور الوسطى عادت في عبودية بني صهيون لنا، أو كأنك في سوق حيوانات برية وبحرية وزاحفة رطب أنت الشاري والمُباع، فلا شيء يدلُ على آدميتهم سوى أرواحهم الهائمة في حب الوطن وأحلامهم، في انتظار يطول ساعات وساعات، لمجيء الزنازين الحديدية المتحركة على عجلات والمسماه "البوسطة" لنقلهم للمجهول المتعمد...
يقلّبون شواهدهم، يصالحون ذواتهم، يجافونها، يطعمونها الوحدة، لتدفئ جَذَعهم وغربتهم، يُسْكِنوها الممرات البعيدة، أقبية الوحشية، منافي الألم...
يزجونهم على غير عجل فهم يملكون الوقت أيضاً، بعد التمحيص والتفحيص وسَبْرِ غَوْر المستتر، وهم يرتدون الأكف أنفةً وقرف، وكأنهم يتعاملون مع أشياء من الدرجة الدنيا دون البشر، آدمياً ودينياً وأخلاقياً، وِفق التصور الديني لليهود، بهائم لغيرهم، فكيف الأسير الذي مرّغ أنوفهم يوماً، إلى البوسطة شديدة القذارة والبرودة والضيق والمستحيل، والتي تنتقل إلى أنفاسك وفمك بطعم المسامير الصدئة، تنتظر وتنتظر ويَمِل منك الانتظار، ليبدأ المسير والنذير، يموت الوقت ويتوقف وكأنه لا نهاية للطريق...
بعد مُكوّن أو تركيب أو وحدة قياس زمنية لا أعرف ماذا أسميها في عُرف الزمن، تصل وجهتك سجن مركزي آخر، تصحو من كومتك الإجبارية، وقد تَشّرب كُل ما فيك السأم على طريقته، تبتهج بالرغم من معرفة ما ينتظرك في هذا القبر الآخر، لعله نهاية الدرب هذا، لا تحفل بالزنازين والأقفاص التي ستضمك بلهفة المشتاق، وأيضاً هنا كسابقاتها، إلى أن تصل إلى زنازين الإقامة المؤقتة حتى تعود إلى قبرك الذي خرجت منه، فحتى بدون أي مقومات للحياة هنا، لا مأكل ولا مشرب ولا حتى مُتنفس، كما أقرته اتفاقية جنيف الرابعة والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان والحيوان والأسير في حالات الحرب، فستظل بِنفس الملابس التي خرجت بها أسبوعين ثلاثة لا أحد يعلم، وما تيسّر من أغطية وسخة التي لا تسمن ولا تغني من دفئ، لا تكترث وتزهد في نفسك كنوع من "البارانويا" المؤقت أو المزمن حتى تعود، معاصمك وقدماك المنتفخة والدامية من وقع الدفع والجر بالأصفاد لا يهم، معدتك وقد تقيأت نفسها فارغة زاهدة، صداع يضرب أطنابه فلا تعرف السبيل لإسكاته، فقد تنتظر وقت العودة بالرغم مما ينتظرك، وأيضا بالعودة، فكما جئت ستعود وبنفس الظروف وقد تكون أسوء وفق المزاج العنصري، وأيضاً لا يهم...
ستعود تلقي بثيابك فلم تعد صالحة للاستعمال من فرط قذارتها وتهشمها، وتلقي بذلك التكوين الزمني الذي مررت به جانباً على كومته في سنين العمر، تستحم لتغسل آلامك وما تراكم على روحك وجسدك من أوساخ ومآسي وعار من تَرَكَكَ في الأسر من اليساريين الأقحاح واليمينيين الثوار والعلمانيين الأغيار وأداروا لك الظهر، وتنامُ في فراشك الذي انتزعوك منه نظيفاً هذا إن تركوه، وكذلك، وتستعد بفشل لفصل وشكل جديد من التشظي والذّل، فكيف انتظار الحرية؟؟!
وجاؤوا...
سنعمل ما يقع على عاتقنا ونترك القدر والصمت ليحكي، فالشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات لا يمكن إدراكه إلا بالصمت، ربما ستنتصر أحلامنا في نهاية المطاف أو نستشهد غير نادمين...