تعالوا إلى كلمة سواء

 




  كتب أحد الأصدقاء الذين أحترم،  بأنه شعر بأسف شديد لدى قراءته منشور لي وضحت فيه رأيي وفهمي لما جرى بين أحد مدراء مصانع الأدوية في لواء ناعور والنائب أسامة العجارمة، وعاب ما اسماه "دفاعي" عن أحد أبناء العمومة، واعتبر ذلك "سقوطا"، واستغرب هذا الصديق أنني لم أجد "مشكلة أخلاقية" في الدفاع عن أحد أبناء العمومة يقول بأنه "تجاوز" القانون، ويرى هذا الصديق أن كل ما جرى يفتح بابًا أمام "ابتزاز" كل الاستثمار والقطاع الخاص بالأردن، علما بأنني لم أقرأ له من قبل ما يشي بوقوفه ضد السياسات التي جعلت البلاد كاملة غير جاذبة للاستثمار الأجنبي. أقول هذا وأنا على يقين بأنني لم أقرأ كل ما كتب، لكنني قرأت ما يكفي لأعرف البنية الذهنية التي ينطلق منها، وهذا أمر آخر.

جملة من الاتهامات وقراءة انتقائية لمنشور ذات طبيعة عامة عبرت فيه عن موقفي كمثقف عضوي، وفقا لغرامشي، يعبر عن وينحاز لطبقة المهمشين، التي يتم استغلالها بأبشع الطرق من قبل تحالف الفساد والاستبداد بالأردن. وكان لافتًا تلك السطوة الثقافية التي تحمل بعض من ينصب نفسه مدافعًا عن قيّم الديمقراطية ليدافع من دون أن يدري عن مصالح الطبقة البرجوازية غير الوطنية، والتي راكمت تاريخيا مستويات كبيرة من رأس المال عن طريق – وليسمح لي الماركسيون باستخدام بعضا من مفاهيمهم – استغلالها للطبقات الأخرى. وهذا ما يمكن تسميته بالوعي المزيف! على إن صديقي المحترم لم يكن لوحده، فهناك غيره من استنكر ما اعتبره هو انتصارًا لقبيلة أو انكفاءً على هوية فرعية، لا سيما عندما يأتي هذا الموقف من قبلي، وأنا على حد تعبير أحدهم "أحمل الدكتوراه من أرقى جامعات العالم، وأعرف لغات أخرى، وشخصية إعلامية معروفة على مستوى العالم العربي"، فكان ذلك سببا كافيا للصدمة، على حد تعبير شخص آخر. 

 بعض الملاحظات يمكن فهمها في سياق الاختلاف في وجهات النظر، ومنها وجهة نظر صاحبي هذا الذي تواصلت معه ووعدته بأن أفرد مقالا خاصًا حول ما كتب، لكن بعضا من هذه الملاحظات لا يمكن فهمها إلا في سياق التصيد، وأخرى في سياق الاستلاب الفكري، ما يعني وقوعهم في براثن نظرة استشراقيه تقدم المجتمع الشرقي، ومنه الأردني بدينامية ستاتيكية، وبعضها يذهب إلى استنتاجات متطرفة واقصائية، إذ تعتبر المكونات الاجتماعية وصفة تخلف.

 لا أعرف أن كان الشعب الأمريكي متخلفا بعد ظهور حركات هوياتيه مثل "حياة السود مهمة"، بعد أن قام شرطي أمريكي ابيض بقتل جورج فولي، فالذين انتصروا له كانوا أشخاصا في غالبيتهم من السود، لكن لم يُتهم أحد منهم بأنه ينتصر لأبناء جلدته!

إين الخطأ عندما أكتب مقالا أدافع به عن حق النائب أسامه العجارمة بأن تسمع وجهة نظره، وأين الخطأ عندما استخدم منهج الشك الديكارتي ولا أصدق رواية  صاحب المصنع ؟ وكيف يكون ذلك ضربا من الإقليمية كما ذهب أحد المحترمين؟ وأين الخطأ عندما أنتقد التجييش الإعلامي ضد شخص لم يسرق، ولم يفسد، وإنما قام بعمل اختلف عليه الناس بين من يقول بأنه محق وبين من يقول بأن ليس من حقه القيام  بما قام به؟ 

أما الصنف الآخر من المنتقدين لذات الادراج ،  فهؤلاء شرعوا في انتقادي شخصيا دون مناقشة مضامين ما كتبت ،  وهؤلاء شخصيات معروفة بقربها من تيار الدولة المدنية، والأخير لي معه مطارحات فكرية  قمت فيها بكشف زيف ادعاءاتهم في سلسلة مقالات، وفي لقاءات تلفزيونية أوجعتهم واصابتهم في مقتل في كثير من الأحيان.

لن يقنعني أحد في العالم أن التيار النيوليبرالي هو تيار ديمقراطي، بدليل أن رموزه شاركوا في كل الحكومات العرفية في الأردن، ولم يعرف عن واحد منهم – مجرد واحد – انسحب من حكومة أو استقال على خلفية قضية تتعلق بالممارسات القمعية ضد الأردنيين. وأكثر من ذلك، هناك من بينهم من يتماهى مع مشاريع تصفية الأردن نظاما وشعبا، ألم تسألني يا صديقي المحترم   باتر وردم ذات يوم عن وثيقة عين عين؟ أتذكر ماذا  كتبت لي على المسنجر؟ ألم تقل حينها بأنك تثق بمهنيتي وموضوعيتي وسألتني إن اطلعت على تلك الوثيقة؟ نعم يا صديقي، أعرف الوثيقة التي حولها باسم عوض الله إلى صلاح البشير الذي كان وزيرا للخارجية، واعرف موقف الوزير الحالي نواف التل منها، وكذلك موقف رئيس الوزراء بشر الخصاونة (الذي كان بالمكتب الخاص لوزير الخارجية)  . نعم يا صديقي باتر وأعرف الدور الوطني الذي لعبته المخابرات العامة عندما ضيقت الخناق على هذا التيار  في هذه النقطة على وجه التحديد.

سأختم بما يلي، لو ثبت أن أسامة العجارمة ضرب صاحب المصنع كما تدعون، سأدين هذا العمل على الملأ، لكنني لن أقبل أن أنساق خلف حملات أعرف جيدا من أين أتت ومن موّلها ومن أكل الطعم.

المسألة عندي ليست أسامة وإنما مسألة أخرى في غاية الأهمية تتعلق بالإصرار على معالجة مظاهر العنف البنيوي. فبنية الدولة الأردنية تحوي في ثناياها تهميش فئات كثيرة من الشعب الأردني، وهذا بدوره يتفاقم مع تراجع موارد الدولة المالية وعدم قدرتها على الإيفاء بشروط العقد الاجتماعي التاريخي. وبدلا من البحث عن بدائل وعن طرائق لمعالجة جذور المشكلة، ينخدع الكثيرون في اشغال أنفسهم بمعالجة مظاهر المشكلة، فعندما قام البعض – بصرف النظر عن منطلقاته، بسن سكاكينه للنيل من أسامة العجارمة، فقد وقعوا في الخديعة الكبرى. فكثير من الأردنيين يعانون من التهميش والحرمان الاقتصادي.

اما البعد الاخر للمسألة ،فانني ارى انه متصل بعملية اضعاف البرلمان وتقزيم دوره وتهشيم صورته ، وهنا لا بد ان نشير  إلى تيار ليبرالي بعينه، ظل يدعي الليبرالية الديمقراطية، الا انه تبين فيما بعد انه اكثر عرفية   واقصاء من غيره ، حيث تبنى رموزه  نظرية أن تمكين الشعب من خلال البرلمان يعطل الإصلاح، فكان ان غيبوا البرلمان لمدة ثلاثين شهرا ،  وكان الإصلاح بوجهة نظرهم يقتصر على  بيع مؤسسات الدولة، تلك المؤسسات التي بناها الأباء والأجداد من كل مكونات المجتمع الأردني.  هؤلاء عملوا على اضعاف البرلمان وتهميشه وتهشيمه من خلال تزوير ارادة الشعب والعبث بخياراتهم ،  فالمطلوب اذا أن تكون ثقة الناس بالبرلمان في حدودها الدنيا حتى تتحول هذه  السلطة الى كيان هلامي لا فقاري، وبالفعل نجحت هذه الطغمة في تقزيم البرلمان الذي تحول على رأي عبدالكريم الدغمي إلى برلمان ديكوري لا اكثر ولا اقل ..  

وبعيدًا عن التخندق أيا كان شكله ونوعه، الأصل أن نؤسس لجبهة وطنية موحدة عنوانها مواجهة الفساد والاستبداد، هنا فقط يمكن مواجهة المشاريع التي تستهدف الأردن، ومن دون ذلك سنكون جميعا بشكل أو بآخر قد ساهمنا في تجذير الاختلالات والانقسامات ،فنستحيل جميعا الى معاول  للهدم في وقت احوج ما نكون  فيه لرص الصفوف.