في الأردن.. هل تقتل جائحة كورونا المقاهي؟



عرفت العاصمة الأردنية المقاهي مطلع عشرينيات القرن الماضي، بينما انتشرت في العالم مع السنوات العشر الأُول من القرن السادس عشر الميلادي بدءا من تركيا قبل أن تنتقل للعاصمة البريطانية لندن منتصف القرن السابع عشر.

ارتبطت المقاهي بنشأة المدن المفتوحة في تركيبتها السكانية والمتنوعة تاريخيا بنمط إنتاجها وتعدد نسيجها الاجتماعي، بخلاف القرى التي كانت تنتشر فيها المضافات والمجالس والديوانيات/ الدواوين كنقطة للتواصل والتشاور والقضاء وعقود الزواج واستقبال الضيوف.

انتشرت المقاهي في المدن كمحطات للاستراحة، وتناول القهوة للغرباء قبل أن تصبح جزءا من وسائل التفاعل الاجتماعي في المدينة، وتغدو واحدة من عناوينها الخدمية العامة لفئات المجتمع، لقضاء وقت الفراغ ولقاء الأصدقاء، وممارسة متعة لعب الورق/ الشدة/ الكوتشينة التي كانت استعملت في الأزمان الغابرة من العرافين وقراء البخت، لتصبح واحدة من أكثر ألعاب التسلية في القرن العشرين قبل اختراع الألعاب الإلكترونية.

ولعبت بعض المقاهي أدوارا مفصلية وخطيرة، وكان بعضها مسرحا لأحداث تاريخية، ومنها مقهى الرشيد في العاصمة السورية دمشق الذي شهد تأسيس حزب البعث 1947، ومقهى فينيكس بالقاهرة الذي كان مجمعا لرواد النهضة المصرية وقادة ثورتها، ومنهم محمد عبده، وسعد زغلول.

مؤسسات وسطية
الأردن الذي عرف المقاهي في العشرينيات من القرن الماضي مع تأسيس الدولة، ارتبطت فكرة المقهى بالتسلية وملء وقت الفراغ، إلا أن وظيفتها خلال قرن من الزمان تعرضت لكثير من الأدوار التي تتصل بالجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، حيث تأثرت بالأحداث السياسية، ولعبت دورًا في التحولات الاجتماعية، وهو ما يفسر العدد الكبير للمقاهي في العاصمة عمّان التي تزيد على 500 مقهى.

ويفسر عميد كلية الاجتماع بجامعة مؤتة الدكتور حسين محادين حجم الانتشار لهذا النوع من المؤسسات الخدمية، بقوله إن "المقاهي قديما كانت تقتصر على كبار السن والمتقاعدين، ومع التحولات ظهر ما يعرف بـ"المؤسسات الوسيطة" التي تؤدي الخدمة بين المجتمع والفضاء العام، والتي شكلت ما يعرف بالأصدقاء المتجانسين (الشلة)، فقد زاد عدد روادها، ومما عزز ذلك أن التواصل في المقهى خفف التزامات (معاني الضيافة التقليدية) التي تثقل كاهل المضيف، وفي الوقت نفسه وفرت مساحة من الحرية، بعيدًا عن محددات البيوت وأطرها وجدرانها".

ويضيف محادين أن تلك الفضاءات لعبت دورا "كمصادر للحوار والأخبار، حيث أصبح المكان الوسيط جاذبا ومألوفا بوصفه معبرًا عن تقاليد الحداثة بخلاف ما كان عليه قديما".

ووفرت هذه الوظيفة للمقهى دورا مبكرا في الحياة السياسية، أو بالأحرى كانت شاهدة على التحولات بوصفها فضاءات عامة، ومنها مقهى حمدان الذي ارتبط تاريخيا بعقد مؤتمرين وطنيين مهمين في حياة المعارضة الأردنية، وتزعم أحدهما حسين الطراونة 1928، وأهمية المؤتمر موقفه في مواجهته الاستعمار البريطاني ومقاومته للحركة الصهيونية.

كما ظهر مقهى الشالاتي في شارع الملك فيصل الذي امتلك أول مذياع (1935) يعمل بالبطارية السائلة وكان جمهوره يتحلق حوله لسماع الأخبار والأغاني.

وتنوعت وظائف المقاهي قديما بحسب الكاتب الصحفي وليد سليمان، بين البرامج الترفيهية والموسيقية التي تتناسب مع الثقافة السائدة، مثل العزف على الربابة والحكواتي، ومنها مقهى محروم، وماتيلدا، ووادي النيل، وأيضا الأريزونا، البرازيل، والكرنك، ولكن هذه المقاهي اختفت منتصف الأربعينيات مع تحول الأذواق والأحداث وثقافة المجتمع.

عرين الأحزاب
بقي بعض المقاهي منذ نهاية العشرينيات وحتى الخمسينيات وستينيات القرن الماضي مكانا لعقد الاجتماعات الحزبية، وعرينا لإعداد مخططاتها لتنظيم مسيراتها. ولوقوع مقهى الجامعة العربية مقابل المسجد الحسيني، وسط البلد، فقد كانت شرفته منصة لتوجيه الخطابات من قادة الأحزاب للجماهير التي تتجمع في ساحة المسجد، كما يقول الباحث الأنثربولوجي أحمد أبو خليل "كان قادة الأحزاب يتسابقون لإلقاء خطاباتهم النارية على مسامع الجماهير"، مستذكرا صورة الدكتور عبدالرحمن شقير على شرفة أحد المقاهي، مستدركا أن المقهى لعب دورا مهما في إذكاء حماسة الجماهير، ولأهمية هذا الدور، فقد حظي باهتمام العديد من المؤرخين الذين أرخوا لتاريخ المقهى، ومنهم عبدالله رشيد، وفؤاد البخاري وصلاح حزين.

ومع التحولات والأحداث التي شهدتها فلسطين والأردن بعد حرب 1967، واحتلال الضفة الغربية فقد كان المقهى في سبعينيات القرن الماضي عنوانا للقاء القادمين من الضفة الغربية للتواصل مع الأقرباء وتوصيل رسائلهم بين ضفتي النهر، ومع مطلع التسعينيات غدا محطة لاستقبال المهاجرين العراقيين، مثل مقهى السنترال، وكوكب الشرق، والجامعة العربية.

العولمة والحداثة والمرأة
اختلفت وظيفة المقاهي مع التحول الذي يشهده المجتمع، كما وصفها محادين في كونها "وسيطا بين المجتمع والفضاء العام"، ففي التسعينيات التي تزامنت مع انتشار نزعة العولمة والانفتاح والوهن العربي، فقد وجد بعض المثقفين في المقاهي فضاء شعبيا، وعنوانا للتواصل مع المجتمع، تقليدا لمقهى ريش والفيشاوي في القاهرة الذي كان يجلس فيه عدد من الأدباء والسياسيين، ومنهم الروائي نجيب محفوظ.

وكان واحد من المقاهي التي يرتادها الكتّاب بداية تأسيس تيار القدس كتجمع انتخابي لرابطة الكتاب الأردنيين الذي جرى في مقهى عمون بمنطقة العبدلي نهاية التسعينيات، وفي الوقت ذاته كان العتبة الأولى لدخول المرأة إلى المقهى الذي كان مقتصرًا على الرجال.

ومع دخول شرائح اجتماعية جديدة تطورت وظيفة المقهى بخدمات جديدة (حداثية) تتعدى المشروبات والأرجيلة، بحيث تخصص زوايا للكتب، وتهتم باللوحات والأعمال التشكيلية، والصور الفوتغرافية للمشاهير في الأدب والفن، فضلا عن اهتمام أصحابها بالنمط العمراني القديم والديكور التقليدي، وتنظيم فعاليات ثقافية، ومنها مقهى جفرا، وجدل، وركوة عرب، ورمال.

وعملت هذه المقاهي على تقديم خدمات جاذبة للأفراد وبعضها حمل أسماء أجنبية (كوفي شوب). لكن المقاهي التقليدية بقيت وفق تقاليدها، محافِظة على تراثها، ولها روادها التي مثلت لهم جزءا من عاداتهم اليومية لقراءة الصحف أو لقاء الأصدقاء وكتابة المقالات، ومن الأدباء والسياسيين والإعلاميين الذين حجزوا أماكن وزوايا لهم: الشاعر مصطفى وهبي التل (عرار)، وتيسير السبول، ورسمي أبو علي، وعز الدين مناصرة، ومحمد خروب.

خريطة سياسية
ومن الطريف أن صورة المقاهي التقليدية في عمّان عكست منذ تأسيسها التقسيمات الاجتماعية بين "الأفندية" و"الحفرتلية"، فقد عرف بعض المقاهي استقباله للنخب والأعيان والوزراء والسياسيين، بينما غلب على رواد بعضها العمال وصغار الكسبة والعاطلين عن العمل.

وكما لعبت المقاهي كمنبر سياسي، فقد عكست أيضًا صراع "الديكة" والمنافسة بين الأحزاب القومية واليسارية -طبعا الأحزاب الدينية ليست من رواد المقاهي- حيث توزعت القوى السياسية، كما يقول الكاتب سليم النجار، على العديد من المقاهي، وسط البلد، وكان مقهى الجامعة العربية مقرا للبعثيين، أما السنترال فكان موئلا لحركة القوميين العرب، ومقهى بلاط الرشيد لكبار الموظفين في الدولة، ومقهى الأردن للمتقاعدين المدنيين من رجال الدولة، ومقهى كوكب الشرق للشيوعيين، ومقهى حمدان منبرا لمختلف القوى السياسية.

جائحة كورونا
مع انتشار جائحة كورونا، بدا أن تلك الخدمة الوسيطة (المقاهي) تتعرض لانتكاسة بسبب قرارات الحظر، والبروتوكولات الصحية التي تحد من التجمعات والتقارب الجسدي ومنع الأرجيلة، وطالها ما طال القطاعات الأخرى من شلل بعد انحسار طاقة عملها في نسبة لا تتجاوز 20%.

وتوقعت إحصائيات رسمية -في الأردن- ارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 23%، وكان قطاع المقاهي الأكثر تضررًا، خصوصا العاملين فيه وغالبيتهم من العمالة غير المنظمة (المياومة) والتي يقدر عددها بعشرات الآلاف.

ومع غياب دور المقهى السياسي والاجتماعي والثقافي بسبب ما أشيع عن الضرر الذي تلحقه الأرجيلة بانتشار الوباء، فإن كثيرًا من المثقفين لا يرون في المقهى مكانًا صحيًا للحوار الثقافي بسبب الضجيج، ولم ترتقِ المقاهي الثقافية لدورها ولم تتجاوز كونها مؤسسة تجارية خدمية، وهو ما أكده أستاذ الأدب العربي في جامعة البلقاء التطبيقية الدكتور حسن المجالي، من أن المقهى "مجرد استثمار لا يقدم أي محتوى ثقافي، فالزائر يرى صورًا لمثقفين وفنانين معلقة على جدران هذه المقاهي، وبعضها يزيّن القائمة التي تدون عليها أسماء الأطعمة والمشروبات ويضعها على طاولاته ببعض القصائد السائرة التي يحفظها الناس، ويغلف أجواءه بصوت فيروز في الصباح وأم كلثوم في المساء.. في حين لا تجد غير الأرجيلة التي يملأ دخانها فضاء المكان".

في حين أرجع الشاعر هشام عودة السبب إلى أن المثقفين أيضا "أخفقوا في بناء علاقة خاصة بالمقهى، على غرار تلك العلاقات القائمة بين نظرائهم ومقاهي القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت وغيرها".

وعن الحالة الاقتصادية للمقاهي يقول صاحب مقهى مهدي عرب، إنها "تمر بحالة شلل، وضعف وخسارة فادحة"، ويوافقه الرأي صاحب مقهى حكايتنا الذي يقول إن "الخسارة بلغت نحو 80%، وحضور الزبائن 10%، فالكل يريد بيع المحلات لأننا تدمرنا، وهي لا تغطي التزاماتنا الكبيرة جدا".

ويقول أحد رواد المقهى، إن "السبب هو القرارات التي تمنع الأرجيلة وخوف الناس والحظر، حيث كان رواد المقهى يأتون مع الأصدقاء مساء، وهي الفترة التي يبدأ فيها الحظر".


(الجزيرة نت)