ليلينبلوم والصهيونية التسللية
نشأ موشيه ليلينبلوم نشاة متواضعة في اسرة يهودية تقليدية كباقي غالبية اقرانه من المفكرين اليهود في روسيا واوروبا الشرقية. تلقى في طفولته العلوم الدينية وحقق شانا عاليا في الثقافة التلمودية. لكنه ما لبث ان لحق اثناء اقامته في فلكومير الليتوانية بركب حركة الاستنارة اليهودية (الهسكلاة) وخضع لتاثير افكارها وم فاهيمها، واخذ يدعو للقيام باصلاح ديني معتدل يتناول بعض ما ورد في التلمود من تعاليم وتشريعات ، مما اثار عليه غضب المتدينين ، وادى ذلك الى ان يتخلى عنه الكثيرون من اهله واتباعه. فقد تناول ليلينبلوم في دعوته الاصلاحية الاسس التي قامت عليها الديانة اليهودية، وميز بين ركنين اساسيين فيها : الركن الاول هو الشريعة الالهية التي نزلت على موسى عليه السلام وغيره من الانبياء ، وهي الركن الثابت الذي لا يجوز اجراء اي تغيير فيه، اما الركن الثاني فهو. التلمود بما تضمنه من تشريعات وتعليمات ، وهو من وضع حكماء اليهود في مراحل الشتات الاولى وذلك لتلبية احتياجات اليهود وتنظيم حياتهم العملية في مختلف نواحيها . وقد استعرض ليلينبلوم ظروف اليهود في العصور الوسطى والمعاصرة ، فوجد ان الحاجة ملحة اكثر من اية فترة مضت لان يقوم حكماء اليهود بتعديل واضافة تشريعاتوتعليمات جديدة على التلمود لتسهيل مهمة تفاعل اليهود مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بهم . وبتعبير اخر فان ليلينبلوم حاول التوفيق بين حرفية الشرع التلمودي والافكار التحررية والمجددة التي كانت منسجمة مع روح العصر .
ولم يتوقف في دعوته عند هذا الحد، وانما دعا الى ضرورة القيام بهذه الاصلاحات باسرع وقت ممكن. وحذر من مغبة التهاون والتقاعس، حيث ان ذلك يودي الى عواقب وخيمة، كاضطهاد متزايد لليهود، او اندماج اليهود في مجتمعات * الجوييم * ( الاغيار او غير اليهود) والتخلي عن تراثهم ودينهم .( Arthur Herzberg , The Zionist Idea , p. 112 ) .
واشار ليلينبلوم في تشخيصه لمصدر الداء اليهودي بانه داء ذاتي لا يمكن التغلب عليه الا بعلاج داخلي في صميم المجتمعات اليهودية مبينا عدم انتظار معجزة خارجية تفد من مجتمعات الجوييم لانقاذ اليهود من داىهم ومشاكلهم المستعصية .( Walter Laqueur , A History of Zionism , p. 68 ) ولعل ليلينبلوم كان يلمح في هذا الصدد الى ما اشاعه البعض من ان قيصر روسيا انذاك، الاسكندر الثاني، كان ينوي القيام بتحسين احوال اليهود واوضاعهم .
ولم يمض وقت طويل حتى انتشرت اراؤه في مدينة فلكومير حيث كان يقوم بالتدريس في اكاديميتها التلمودية، مما جعل حياته فيها صعبة لا تطاق ، خاصة وان الكثيرين بداوا يتهمونه بالهرطقة والزندقة ، فاضطر الى مغادرتها والهجرة الى اوديسة الواقعة على ساحل البحر الاسود وكانت تعتبر مركز التجديد اليهودي انذاك (Ibid) .كان يهود اوديسة البالغ عددهم في ذلك الوقت حوالى ٥٠ الف نسمة، معروفين بالانفتاح الديني وانتشار الفكر الليبرالي الحر بينهم، وبلغت نسبة المندمجين من يهودها ثلاثة اضعاف معدل نسبة المدن الاخرى. وهكذا وجد ليلينبلوم نفسه امام تحد من نوع جديد، فيهود اوديسة تجاوزوا حدود الاصلاح التي وصل اليها هو نفسه ، وكانوا بالتالي لا يعيرون اي اهتمام لدعواته المنادية بضرورة اصلاح المجتمعات اليهودية ، ورغم هذه اللامبالاة التي واجهها ليلينبلوم من جانب يهود اوديسة، الا انه بقي متشبثا برؤيته الاصلاحية رافضالسياسة الاندماج والتخلي عن هويته اليهودية ، ونظرا لاتقانه اللغة الروسية فقد اطلع على ما كانت الصحف الروسية تنشره من مقالات واخبار مما زاده اقتناعا بما كان النظام الروسي يبيته لليهود من نوايا عدوانية، وازاء فقدانه الامل بامكانية اصلاح الاوضاع اليهودية في روسيا وباقي الدول السلافية في اوروبا الشرقية وخاصة بعد احداث كيشينيف عام ١٨٨١التي راح ضحيتها اعداد كبيرة من اليهود الروس بتهمة التورط في المؤامرة التي اودت بحياة القيصر الروسي، الاسكندر الثاني، اراء هذا كله وبعد اقتناعه بعدم جدوى المضي في سياسته لاصلاحية تخلى عن ذلك كله وكرس بقية حياته للنشاط الصهيوني .
ولعله ليس من قبيل الصدفة ان يجيء تحول ليلينبلوم الى الصهيونية بما تضمنته من حث اليهود الروس على الهجرة في الوقت الذي بدات فيه الطبقة الوسطى الروسية تبرز واخذت تطلعاتها المادية تدفعها لتستحوذ على السوق المحلية وتتخلص من اي منافسة من جانب القوى الاقتصادية التقليدية ، وكانت هذه القوى تتضمن اعدادا كبيرة من اليهود ممن كانوا يسيطرون على الحرف الصغيرة والمواد الاستهلاكية حيث تم اقتلاعهم من حرفهم التقليدية ومهنهم التجارية . وهكذا اصبح اليهود يتطلعون للهجرة من روسيا ويبحثون عن مكان اخر يلجاون اليهويستقرون فيه . وهنا انضم ليلينبلوم الى ليو بنسكر في الدعوة الى وقف هجرات اليهود الروس صوب اوروبا الغربية وامريكا وايجاد بقعة بديلة يتخذ منها اليهود وطنا لهم . وانطلق ليلينبلوم في الدعوة الى توجيه اليهود الروس للهجرة صوب فلسطين ليقيموا مستوطناتهم فيها ويتخذونها وطنا لهم . ويلاحظ ان ليلينبلوم سار على منوال ليو بنسكر في طرحه حله الصهيوني للمسالة اليهودية ، اذ دعا الى ان يتم الاستيطان في فلسطين اعتمادا على *جهود اليهود الذاتية*والعمل على تحقيق امر واقع في فلسطين وذلك عن طريق التسلل اليها بشتى الطرق الممكنة سواء كانت طرقا سرية او علنية * ( المسيري ،ص ٢٣٥).
وخلافا لما دعا اليه العديد من المفكرين اليهود الروس حول اللجوء الى القوى الكبرى للحصول على دعمها ورعايتها للمستوطنين اليهود ، فاننا نجد ليلينبلوم يرفض اللجوء والاعتماد على دعم اية قوة خارجية باستثناء الدعم الوافد من اثرياء اليهود في اوروبا الغربية ، وقد اطلق عبد الوهاب المسيري على هذه الروية الصهيونية التي كان يتبناها ليلينبلوم اسم * الصهيونية التسللية * وكان من اهم دعاتها ايضا حركة البيلو وجماعة احباء صهيون . وقد استمر ليلينبلوم يعمل جاهدا على بلورة ارائه ومفاهيمه بهدف وضع حل للمسالة اليهودية وذلك من خلال مقالات كان ينشرها بالروسية والعبرية ، وعمل فيما بعد على جمع هذه المقالات واعاد طباعتها ونشرها عام ١٨٨٤ على شكل كراس بعنوان : * حول بعث اليهود في ارض اباىهم. * ( Salo Baron , A Social and Religious History of the Jews , p. 84.
استهل ليلينبلومكراسه بالشكوى والتذمر من حياة *الغربة والذل والمهانة * التي ادعى ان اليهود يواجهونها في اماكن اقامتهم بروسيا ، ولعله هنا كان يعكس ايضا معاناته الشخصية اثناء اقامته في اوديسا ، ودعا الى ضرورة ايجاد وطن يستقر فيه اليهود ويعيشون فيه *حياة منظمة طبيعية ينتمون الى قومية يتمتعون بها كباقي البشر* ، وبين ان ايجاد مثل هذا الوطن هو وحده الطريق الذي يكمن فيه خلاص اليهود من حياة *الغربة والذل والمهانة*، فبقاء اليهود في وضعهم الحالي او انصهارهم مع الشعوب التي يعيشون بينها - على حد قوله - ليس في اي منهما استقرار لليهود او خير لهم
وانتقل ليلينبلوم بعد ذلك ليتحدث عن المناخ القومي الذي كان يسود اجواء اوروبا ، فاستعرض الحركات القومية التي اشتعلت في اليونان وهنغاريا وايطالياوالمانيا وباقي دول وسط اوروبا ، وبين كيف ان عدوى الحركات القومية بدات تطرق ابواب اوروبا الشرقية وروسيا ، وحذر من مغبة انتشارها وما يترتب عليها من اندلاع لهيب النزعة اللاسامية التي تهدد * امن اليهود وسلامتهم * ، ولم يجد ليلينبلوم منفذا - في نظره - سوى ضرورة البعث القومي بينهم ، والغريب انه تمادى في ادعاءاته مشيرا الى ان الروح القومية لليهود متاصلة في تراثهم منذ صدور التعاليم الموسوية وانها ستنشط حال اسراع اليهود بالهجرة الى * ارض اباىهم * والمقصود بها بالطبع الارض الفلسطينية (Ibid) . ومن اجل تامين الوصول الاستيطاني الى فلسطين، دعا ليلينبلوم زعماء اليهود في اوروبا الغربية للتاثيرعلى حكوماتهم كي تضغط على الدولة العثمانية لتسمح لليهود بالهجرة الى فلسطين ، كما دعا ليلينبلوم هولاء الزعماء الى ضخ الاموال اللازمة على امل ان يتمكنوا من اقناع العثمانيين بالسماح لهم بشراء مساحات من الارض الفلسطينية لتامين استيطان مجموعات من اليهود عليها.
وهكذا تمكن من وضع اطار لاستثمار اموال اثرياء يهود الغرب المندمجين وتوظيفها في خدمة المستوطنين ، كما دعا ليلينبلوم الى قصر هجرات اليهود على المزارعين والحرفيين وصغار التجار بغض النظر عن مدى تطرفهم او اعتدالهم في ارائهم الدينية او السياسية. ولم يقتصر ليلينبلوم في دعوته الاستيطانية على ارض فلسطين وانما تعدى ذلك الى الارض السورية بكاملها ودليل ذلك انه دعا الى تاسيس جمعية استيطانية اطلق عليها اسم *جمعية استيطان ارض فلسطين وسوريا *.وقد انضم ليلينبلوم فيما بعد الى حركة احباء صهيون، كما اصبح من كبار مؤيدي هرتزل، الا انه اختلف معه في اسلوبه الدبلوماسي وارتباطه بالقوى الامبريالية، وظل يؤيد الاستيطان التسللي المعتمد على الجهود الذاتية *للشعب اليهودي *دون غيره، وبقي يعمل بنشاط في سبيل دعم وتطوير المستوطنات الزراعية والحرفية في فلسطين. وقد صدر له بعد وفاته عدة كتب تم نشرها في اربعة اجزاء تحت عنوان* الولادة الجديدة لليهود * وكانت بمثابة برنامج لما اطلق عليه * عملية الاحياء القومي اليهودي * ؟!