ما بعد السلط

 دقت الكثير من نواقيس الخطر في أكثر من موقع في السنوات الأخيرة، وفي كل مرة يتم الاستنفار وتشكيل اللجان وتحميل المسؤولية لأفراد لا نعرف كيف جاءوا ولا ماهية الخطط التي لديهم، ثم نعود إلى ذات الطريق وكأنّ شيئا لم يحدث، وما كارثة السلط المفجعة والمأساوية خارج هذا السياق، وهي صدمة تؤكد المؤكد على مستوى التراجع المريع لكل منظومة الإدارة العامة في كل مستوياتها، وخاصة في قطاعاتها الاستراتيجية وعلى رأسها التعليم والصحة التي أهملت منذ عقود بعد انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي والتنموي والخدمي الأساسي، لصالح اقتصاد السوق الذي أفقر البلاد والعباد وحوّل الحقوق الأساسية للمواطن إلى سلع باهظة الثمن.
ترافق ذلك مع نهج إداري أفرغ مؤسسات القطاع العام من الكفاءات إمّا من خلال الدفع بأشخاص إلى مواقع قيادية صغرى ووسطى وعليا لاعتبارات بعيدة عن المهنية، أو بحجة الهيكلة وضخ الدماء الجديدة، فكان من الطبيعي أن يسود الترهل والبيروقراطية ومظاهر الاستهتار وثقافة الغنيمة والاسترضاء، فكر وسلوك أغلب المسؤولين.
إنّ التضحية بوزير أو أيّ مسؤول في هذه الأزمة أو غيرها، لم يعد كافيا ولا مقنعا، ولن يخرجنا من عنق الأزمة المستحكمة، والتي لن تستطيع أي حكومة تشكل بذات الطريقة والأسلوب والنهج أن تحدث فرقا، فالإصلاح يحتاج إلى فكر وأدوات صالحة وبرامج متفق عليها مسبقا.
إنّ إحداث تغييرات عميقة في المشهد الوطني برمته، من الصعب أن يتم دون قوانين إصلاح سياسي تفضي إلى إنتاج مؤسسات دستورية قادرة على إدارة الشأن العام تشريعا وتنفيذا. ومحاربة الفساد الإداري المتمثل بالتعيينات التي لا تحكمها أسس واعتبارات مقنعة، وفتح كل ملفات الفساد والتي لا زالت حديث الناس في كل مناسبة، بالتوازي مع التقييم المهني الحقيقي والمسائلة المؤسسية.
وفي هذا الإطار فلا بديل عن استعادة دور الدولة الأساسي في قيادة عملية التنمية، وأن تكون قطاعات التعليم والصحة على رأس الأولويات إدارة وتمويلا. وبدون إحداث تقدم حقيقي في هذه العناوين، ستتوالى الإخفاقات والكلف المادية والمعنوية، وتتعمق أكثر فجوة الثقة، وتتسع مساحات الإحباط واليأس، وما يسببه كل ذلك من تطرف فكري وسلوكي، فتصبح المعالجات الهادئة غير ذات جدوى.