العمل عن بعد: كيف يقوض الثقة بين الزملاء وكيف يمكنك أن تستعيدها؟

بعد مرور عام على تجربة العمل عن بُعد منذ تفشي وباء كورونا، هل تراجعت ثقتنا في زملائنا في العمل؟ فيما يلي بعض النصائح لإعادة بناء جسور الثقة.

عندما فُرضت إجراءات الإغلاق الشامل لاحتواء تفشي فيروس كورونا، كانت العديد من الشركات غير مستعدة لترتيبات العمل عن بُعد التي تبين أنها غير محددة المدة.

وقد أثار هذا الوضع الاستثنائي حماسة البعض في البداية للتعاون مع زملائهم الذين يحاولون جاهدين تلبية متطلبات الأسرة وتجهيز بيئة عمل مناسبة من المنزل للنهوض بأعباء الوظيفة عن بعد.

لكن بعد عام من العمل الافتراضي، تصدعت ركائز الثقافات التنظيمية الهشة التي تحكم سلوكيات الموظفين في الكثير من الشركات، وطفا على السطح التشكيك وانعدام الثقة بين المديرين والموظفين الذين يعملون عن بعد.

وبينما من المعلوم في الظروف العادية أن الثقة تولد الثقة، فإن خبراء في الوقت الحالي يرون أن العكس هو الصحيح. فقد أدى غياب التفاعل الشخصي الذي يوطد العلاقات المهنية، إلى تسرب الشك إلى نفوس الموظفين حيال سلوكيات زملائهم، بناء على افتراضات سلبية لا أساس لها من الصحة في الغالب.

ومن جهة أخرى، فإن الكثير من المديرين الذين لم يتدربوا على إدارة فرق من الموظفين عن بعد، سقطوا في فخ الإفراط في مراقبة الموظفين، وهذه الممارسات كثيرا ما تنعكس سلبا على أداء الموظف.

وكل هذه العوامل أدت إلى خلق دوامة من انعدام الثقة والارتياب بين الموظفين في بيئة العمل الافتراضية، وفاقم من حدتها الإنهاك النفسي وفتور الهمة الذي اعترى الكثيرين بسبب طول أمد التدابير الوقائية لاحتواء الوباء والصراع من أجل الحفاظ على صحتنا النفسية في ظل انعدام اليقين.

ولا شك أن هذه الثقة لن تُستعاد من تلقاء نفسها بمجرد انحسار الوباء، ولا سيما في وقت تدرس فيه شركات تبني نماذج عمل جديدة سواء بالجمع بين نظم عمل مختلفة تتيح للموظفين العمل في الشركة أو عن بعد، أو بوضع أسبوع عمل يتضمن العمل ثلاثة أيام من الشركة ويومين عن بعد.

وثمة عواقب وخيمة لهذا المناخ من انعدام الثقة والارتياب الذي يسود بعض المؤسسات، منها تدني الإنتاجية والقدرة على الابتكار وفتور الهمة. لكن لحسن الحظ، هناك خطوات قد تتخذها الشركات لإرساء الثقة وترميمها بين الموظفين حتى لو كانوا يعملون عن بعد.

لماذا قوض العمل عن بُعد الثقة بين الزملاء؟
التعليق على الصورة،الأحاديث الجانبية في العمل، رغم أنها قد لا تبدو ذات أهمية، تسهم في بناء الثقة بين الزملاء، وقد أصبحنا في أمس الحاجة لها الآن

بُعد المسافات يسهم في تآكل الثقة

قبل الوباء، كانت بذور الثقة تُزرع في نفوسنا في بيئات العمل دون أن نشعر، سواء من خلال تبادل التحية عند المصعد أو تجاذب أطراف الحديث في أمور لا علاقة لها بالعمل بعد الاجتماع أو إبداء الإعجاب بقصة شعر أحد الزملاء.

ويقول سكوت شايمان، رئيس قسم علم الاجتماع بجامعة تورنتو: "تُبنى الثقة المتبادلة بين الناس، من خلال قضاء وقت معا، حتى لو كان في أمور لا صلة لها بمهام العمل.

فنحن نقيم روابط اجتماعية ونوطدها من خلال التواصل اللفظي وغير اللفظي للتعبير عن التفاهم مع الآخر والتعاطف معه والتحدث في الاهتمامات المشتركة.

ومن المستحيل أن تحل المكالمات عبر تطبيق زووم محل التفاعل البشري وجها لوجه سواء من حيث العمق أو الجودة”.

لكن التواصل عبر المكالمات المرئية والصوتية والبريد الإلكتروني والرسائل الفورية لا يعرقل إقامة علاقات قوية مع الآخرين فحسب، بل أيضا قد يؤدي إلى نشوء سوء تفاهم بسبب طبيعة التواصل المحدودة.

ويقول شايمان: "قد ترى تعبيرات وجه المدير أو أعضاء الفريق في اجتماع عبر منصة زووم وتسيء تفسيرها أو تقيّمها بطريقة سلبية. فقد تخطئ في قراءتها تماما وربما لا تضع في الحسبان أن شيئا آخر في الخلفية قد أثار إزعاجهم، مثل تصرفات أطفالهم”.

فعندما لا نرى جميع الظروف المحيطة بسلوكيات زملائنا قد نميل إلى عزو ما بدر منهم من تصرفات أو كلمات إلى شخصياتهم، بدلا من التماس الأعذار لهم.

ويطلق علماء النفس على هذه الظاهرة اسم "خطأ العزو الأساسي”، عندما نميل لعزو تصرفات الغير إلى شخصيتهم في حين ننسب نفس السلوكيات عندما نمارسها إلى ظروف خارجة عن إرادتنا.

وتقول هايدي غاردنر، رئيسة برنامج تحفيز مهارات القيادة الذي أطلقته كلية الحقوق بجامعة هارفارد ومؤلفة كتاب "التعاون الذكي”: "إذا تأخرت عن موعد الاجتماع أثناء العمل من المنزل، ستعزو ذلك إلى انقطاع شبكة الإنترنت، لكن إذا غاب أي شخص آخر عن اجتماع، ستعزو ذلك إلى شخصيته”.

وتفسر غاردنر، التي درست أنماط الثقة بين العاملين في قطاع المعرفة، ذلك بالقول: "قد تفترض أن هذا الزميل كسول أو لا يكترث للعمل أو لا يلتزم بواجباته.

فعندما نعمل بمعزل عن بعضنا بعضا، لا نرى سوى الظروف الخاصة بنا ونجد مبررات لسلوكياتنا، لكننا نكيل الانتقادات للآخرين عندما يواجهون مشكلة تعطلهم عن أداء مهامهم”.

وإذا قرر أحد المديرين تشديد المراقبة على موظف، بناء على افتراضات سلبية بشأن سلوكياته، فقد يسبب ذلك للموظف ألما نفسيا، وهذا سيؤثر سلبا على أدائه.

وتقول كارولين نايت، الباحثة بمعهد مستقبل العمل بجامعة كيرتن، بمدينة بيرث بأستراليا: "قد يفسر الموظفون المراقبة الصارمة بأن مديريهم لا يثقون في كفاءتهم، وهذا يقوض إحساس الموظف بالسيطرة على مهام وظيفته ويزعزع ثقته في مديريه ومؤسسته ككل”.

وتضيف أنيتا كيلر، الأستاذة المساعدة في علم الاجتماع والعلوم السلوكية بجامعة خرونينغن بهولندا: "عندما يشرع الرؤساء في مراقبة موظفيهم، تفتر عزيمة الموظفين ويتراجع إحساسهم بالمسؤولية تجاه عملهم”.

وتفسر ذلك بالقول إن الشعور بالاستقلالية في العمل الذي يترافق عادة مع العمل عن بعد قد يسهم في تحسين أداء الموظفين ورفع روحهم المعنوية، لكن هذا يتوقف على حجم الثقة التي يوليها الرؤساء لفريق العمل.

لماذا قوض العمل عن بُعد الثقة بين الزملاء؟
التعليق على الصورة،افترض دائما أن زملاءك لا يثقون في الآخرين إلا بناء على الأدلة، وحاول أن تثبت لهم أنك جدير بالثقة

إقامة علاقات عن بعد

تقول غاردنر إن ثمة نوعين من الثقة؛ الثقة في الكفاءة التي يكتسبها الموظف من خلال قدرته على إداء المهام بإتقان، والثقة الشخصية المتبادلة التي تُكتسب من خلال التفاعلات الشخصية وإثبات النزاهة.

وتقول غاردنر: "قد تسلم عملا لا تشوبه شائبة لكنك تتصرف بحماقة وفظاظة، وهذا يؤثر على الثقة الشخصية. ولهذا فإن الموظفين ينبغي أن يرسلوا رسائل قوية وواضحة للآخرين لإثبات أنهم جديرون بالثقة”.

وفي المقابل، عندما نتحدث عن منح الثقة، فثمة نوعان من الشخصيات. فالبعض يثق في الآخرين تلقائيا، إلى أن يتبين لهم أنهم ليسوا أهلا للثقة.

وهناك أشخاص لا يمنحون الثقة للآخرين إلا بناء على الأدلة، أي حتى يجدوا أسبابا مقنعة لمنحهم ثقتهم. وتقول غاردنر: "إذا كنت لا تعرف طبيعة شخصية زميلك في العمل بعد، فافترض دائما أنه يثق في الآخرين بناء على الأدلة”.

وتنصح بالتواصل مع الزميل الجديد وتقديم معلومات له أكثر من المطلوب حتى تتمكن من إرساء الثقة في المكان.

وعن دور الشركات في نشر الوعي بأهمية الثقة، يقول بوشان سيثي، رئيس خدمة الاستشارات في مجال ممارسات الأفراد والمؤسسات بشركة "برايس ووترهاوس كوبرز”: "إن بناء الثقة يقتضي أن تدرب المؤسسات العاملين على مهارات القيادة الشاملة، ولا سيما في بيئات العمل عن بعد، حيث يشعر الناس أنهم أكثر انفصالا عن زملائهم. فينبغي أن يؤكد الرؤساء للمرؤوسين أنهم جزء من المؤسسة حتى لا يشعر أي منهم بالإقصاء أو التهميش، وأن أفكارهم ستجد دائما آذانا مصغية، وأن يتعاطفوا معهم إذا تعرضوا للضغط النفسي أو انتابتهم مخاوف أو أصيبوا بالاحتراق النفسي”.

ويؤكد أيضا كل من نايت وكيلر على أهمية التعاطف مع الموظفين لبناء الثقة. وقد خلصت دراسة أجرياها معا أن المديرين الذين يدعمون الموظفين ويقدرون مجهودهم يسهمون في توطيد الثقة في المكان، ويكتسبون في المقابل ثقة مرؤوسيهم.

ووضع معهد مستقبل العمل، في إطار رسالته للنهوض بالخبرة وقيمة العمل، بعض النصائح عبر الإنترنت عن إدارة الوقت واستراتيجيات التواصل لدعم المديرين والعاملين في بيئات العمل المرنة.

وتقول نايت: "يجدر بالمؤسسات أن تمول تدريب العاملين في مجال التوعية بمزايا العمل عن بعد، وكيفية منح الموظفين درجة من الاستقلالية وأساليب الإدارة بناء على النتائج، بمعنى أن يكون التركيز على الأهداف التي حققها الموظف، وليس عدد ساعات العمل أو سرعة رد الموظف على الرسائل”.

"أثق بك”

كل هذه الأساليب قد تساعد العاملين في إرساء دعائم ثقافة تنظيمية تقوم على الثقة المتبادلة بين الموظفين، وإن كان فقدان الثقة في الواقع أمرا لا مفر منه.

فإذا تأخرت عن موعد تسليم مشروع أو عجزت عن تلبية بعض التوقعات، فعليك أن تتحمل المسؤولية عن التقصير ولا تحاول إنكاره حتى تستعيد ثقة الآخرين.

وتشدد غاردنر على أهمية الاعتراف بالأخطاء، وتقول: "عندما تعترف بأخطائك، فكأنك تقول للآخرين ضمنيا ‘أنا واثق أنكم لن تستغلوا هذا الاعتراف لإيذائي'”.

وفي حالة فقدان الثقة بين المديرين والموظفين في المؤسسة، كأن يعمد مدير على سبيل المثال إلى مراقبة جميع حركات وسكنات الموظفين،

فيُنصح الموظفون بزيادة التواصل مع مديريهم لتهدئة مخاوفهم. وتضرب كيلر مثالا على ذلك، بأن تُطلع مديرك أولا بأول على مستجدات سير العمل، والأهداف التي أنجزتها والصعوبات التي تواجهها والتحدث معهم عن توقعاتهم بشأن الأداء ومعايير التقييم.

ولو شعرت أن رئيسك رغم كل ذلك لا يزال يقيد حركتك، فتنصح كيلر بأن تبدي له تقديرك لأهمية المراقبة وأن تعرب عن استيائك من المراقبة المفرطة لأنها تؤثر على حالتك المعنوية وأدائك.

ولو باءت جميع محاولاتك بالفشل، فقد تلجأ كحل أخير لاستشارة مدير آخر أو ممثل الموارد البشرية. فعندما تتزعزع الثقة، يكون الحل هو معالجة الأسباب وإثبات حسن النية.

والخلاصة أن بناء الثقة أمر لا غنى عنه في بيئة العمل الصحية، وقد أثر فيروس كورونا بشدة على الثقة المتبادلة بين الموظفين في المؤسسات.

لكن التركيز على إعادة بناء الثقة وتوطيدها بين الزملاء سيؤثر تأثيرا مباشرا وفوريا على جودة العمل، وأيضا توقعاتنا لمستقبلنا المهني على المدى الطويل.