بعد مئة عام من تأسيسها، هل تغير الدولة الأردنية من أحصنتها وقد شاخت وهرمت؟؟؟
في نظريات نشوء الدول والممالك، ثمة مقاربتان؛ تقول إحداها أن الدولة وتنظيمها الإداري والعسكري يظهر حينما يظهر المجتمع ويتطور وتتعقد بناه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فتظهر الدولة كنتاج لهذه التطورات الذاتية. تظهر الدولة هنا كنتاج للديناميات والقوى الداخلية البحتة. وأما المقاربة الثانية فتقول أن الدولة، وخصوصا دول ما بعد تشكل النظام الرأسمالي وتعمق حركة العولمة، فهي تظهر كنتاج لحاجات خارجية، فتظهر الدولة وأذرعها بفعل قوى الخارج أولا، ليظهر بعدها المجتمع، وعليه فتصبح الدولة سابقة للمجتمع، وهي الخالقة والمحفزة لظهوره.
وفي النقاش الذي يخوضه مؤرخون وأنثروبولوجيون وعلماء سياسة واجتماع، ثمة لازمة لطالما تكررت، تقول بأنه وفيما يتعلق بنشوء دول ما بعد سايكس-بيكو، فإن العامل الخارجي وتحديدا الكولونيالي أو الاستعماري منه، كان هو العامل المباشر والحاسم في نشوء هذه الدول. وأنه وفي الحالة الأردنية، فإن التقسيم القسري للجغرافيا السياسية التي فرضها الثنائي سايكس وبيكو، فقد أمعن مشرط الجراح البريطاني الذي نكث بكل عهوده للشريف حسين، كي يخلق جغرافيا سياسية قليلة السكان والموارد. وكي يخلق جغرافيا سياسية تشتمل على مجتمع تم تقطيع مكونات بنائه الاقتصادي والاجتماعي بل وحتى القرابي لتتوزع بين داخل الحدود الدولية وبين خارجها.
وعليه، فإن اللازمة السوسيولوجية والتاريخية التي تتكرر، تقول: بأنه وفي حالة الدولة الأردنية المعاصرة، فإن الدولة ولدت أولا وكان عليها أن تعمل لاحقا حتى تخلق المجتمع، وحتى تخلق مجتمع الدولة، وكائناتها ومخلوقاتها. فالدولة الناشئة في عشرينيات القرن الماضي، نشأت في مناطق كانت ولقرون طويلة تمثل مناطق طرفية في النظام الإمبراطوري العثماني، وحيث غالبية السكان، إن لم يكن جلهم، كانوا يعتاشون على تربية القطعان مع مجموعات صغيرة من الفلاحين بعيدا عن سلطة الدولة، وحيث تغيب بالكامل شرائح الحرفيين والتجار والصناعيين والبنكيين والمتعلمين، وهي العناصر اللازمة لبناء الدولة الحديثة، وحيث تمول هذه الشرائح الدولة ومواردها مما تنتجه من فائض، وتدفعه من ضرائب.
من يتأمل العقود الأولى لنشوء الدولة، يدرك أن كامل موارد الدولة الأردنية كانت تأتي من وراء البحار. فالميزانية وهي حتى سنوات الأربعينيات لم تكن تتجاوز عشرات آلاف الجنيهات البريطانية، كانت تمول بالكامل من خارج الحدود. كما أن الدولة لم تكن تملك القدرة على فرض الضرائب على سكان رحل ومتنقلين من المستحيل فرض الضرائب عليهم، ناهيك عن أن الدولة الفتية لم تكن تملك من القوة ما يمكنها من الوصول للسكان لتحصيل الضرائب. وعليه، فإن العقود الاولى من تأسيس الدولة، كان الخارج هو الذي يزود الدولة بالأوكسجين. وفي العقود اللاحقة، وتحديدا في سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات، نسجت الدولة قواعد لتبادل المنافع مع الخارج فقايضت إمساكها بموقع الأردن الجغرافي السياسي لتحتصل على الأموال من هذا الخارج كي تطور التعليم والبنى التحتية، وكي تحدث تغييرات تكاد تكون ثورية في تركيبة المجتمع الأردني وبناه الاقتصادية والاجتماعية.
في العقود الأولى من مرحلة تأسيس الدولة وحيث كامل ميزانية الدولة يأتي من الخارج، وعلى قاعدة الحاجة للخارج من أجل إعادة إنتاج الدولة والسلطة في الأردن، نشأت شرائح ونخب بل وعائلات يعرفها الأردنيون، كما تعرفها الدولة وأجهزتها كانت بمثابة الجسر بين السلطة والدولة الأردنية من جهة وبين الخارج من جهة أخرى، وهي شرائح كانت مهمة لاستمرارية الدولة ولإعادة إنتاجها. وعلى قاعدة أن المهم في إعادة إنتاج الدولة الأردنية هو الخارج وليس الداخل، وأن ضمان استمرار دعم الخارج يتأتى من خلال زرع وتعيين هذه الشرائح التي كانت في البداية تمثل حلقة وصل بين الداخل والخارج لتتحول فيما بعد إلى ما يشبه الوكيل للخارج في الداخل.
وفي العقود اللاحقة، تطورت البنى الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وبعد أن كانت ميزانية الدولة تمول وبالكامل من خارج الحدود، باتت المساعدات الخارجية في الميزانية الأردنية لهذا العام مثلا لا تزيد عن العشرة أو الخمسة عشرة بالمائة من واردتها، وهو رقم ضئيل مقارنة مع سنوات تأسيس الدولة والإمارة. وأقول جازما، أن مستوى الموارد البشرية والاقتصادية والطبيعية في البلاد يمكن له أن يستغني بالمطلق عن الدعم الخارجي لو كانت الإدارة السياسية والمجتمعية للمال العام تتم بصورة أفضل.
وبالرغم من هذا التحول الثوري في قدرة المجتمع والدولة على خلق ثروة وطنية باتت تصل اليوم الى حوالي الخمسين مليارا من الدولارات، يأتي قليل منها من الخارج، فإن هناك من يصر على ممارسة السياسة وصناعتها في البلاد، اعتمادا على مقولة أن وجود الدولة والسلطة يأتي من الخارج فقط، وحيث يتم إلغاء الداخل أي المجتمع من هذا المعادلة. وعليه تصبح السياسة هي الاعتماد بالكامل على نخب تعلمت في الغرب، وارتبطت تاريخيا وعاطفيا بالغرب، ويحمل بعضها أوسمة من السفارات، بل بات بعضها يتوسل بعض السفارات منحه وساما كي يسوقه في الداخل ويستثمره ليدخل عالم السياسة وصناعة القرار، وكي يتولى الوزارة أو رئاسة جامعة هنا أو رئاسة هيئة هناك.
انقضاء المائة عام الأولى من عمر الدولة الأردنية، ينبغي أن يكون أكبر من مجرد مناسبة للاحتفال وإنتاج السرديات والأرقام والإحصائيات عما كان وعما صار، بل ينبغي أن يكون مناسبة للعقل السياسي كي يرصد التحولات الثورية التي طرأت في بنية المجتمع الأردني، وكي يفهم توزيع موازين القوى بين الداخل والخارج، وحيث بات الداخل الأردني يمثل جيوشا جرارة من المتعلمين، ومن ساكني المدن، ومن الشباب المنفتحين على ما يجري في العالم، ومن القادرين على إحداث التغيير وحتى التغيير الجذري. وحيث لم يعد الاقتصاد ولا شرعية السلطة ولا استمرارية الدولة يعتمد على الخارج بل يعتمد بشكل رئيس على دعم هذه الملايين العشرة لدولتهم ونظامهم السياسي.
وفي مئوية الدولة الثانية، تخطئ السلطة كثيرا إن صدقت تلك البرقية التي يبعثها أحدهم باسم عشيرته أو قريته أو منطقته ويذيلها، بعبارة " عنهم الشيخ فلان الفلاني" ، فمجتمع القرن الواحد والعشرين في الأردن، هو ليس ذاته في عشرينيات القرن الماضي. فالشخوص ونمط الولاءات كما شروط الزعامة والقدوة والقيادة وتعبيرات الخضوع والانقياد كلها تغيرت، والكارثة تكون حين لا يدرك من هم في السلطة أنها تغيرت، فيصرون على ممارسة السياسة بنفس أدوات العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.
وعليه، فإن الاستمرار في الاعتماد على تلك الأحصنة التي كان المندوب السامي يولدها لنا ذات يوم، وتلك التي تولت بعض السفارات الغربية والإقليمية ومراكز الأبحاث الغربية إنتاجها ذات يوم آخر، باعتبار أن ديمومة الدولة هي في يد هؤلاء الذين يضمنون دعم الخارج لبقاء الدولة في الداخل، هو رهان تجاوزته التطورات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، كما تجاوزته موازين القوى على مستوى الإقليم والعالم.
في مئوية الدولة الثانية، أجزم أنه لم يعد بالإمكان الاستمرار في الاعتماد على أحصنة شاخت وهرمت، وحان أوان استبدالها بأخرى تعكس الداخل والداخل فقط وحيث الخطر من الداخل الغارق في الإحباط والبطالة وانعدام الامل والافق، والنازع لكل المصداقية عن روايات وأخبار سلطته، هو من يملك القدرة على المحافظة على الاستقرار للمجتمع والسلطة، كما يملك القدرة على التغيير وقلب كل موازن القوى، إن تم الاستمرار في صم الآذان عن سماع صوته.