الإصلاح الإداري ام الإصلاح السياسي؟



 
أكثر ما يقلق هذه الايام تلك الأصوات التي تنادي بإقامة حكومة برلمانية منتخبة ضمن اجندة من الإصلاح السياسي والإداري خشية ان نقع مرة أخرى في جدل بيزنطي لا نرى فيه النهاية الى ما يسعى له الشعب الأردني من اصلاح شامل كما يريده جلالة الملك، ينقل الأردن الى بر الأمان، ويحميه من كافة الاخطار السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهدده.

حاولت في اراء سابقة قدمتها تسليط الضوء الى ان المشكلة الرئيسية التي تواجه الأردن، واي دولة في وضعنا، هي مشكلة إدارة. وسأحاول ان أكون أكثر وضوحا في الرأي الذي أقدمه هذه المرة.

الشكوى الرئيسية التي نسمعها هنا في الاردن هو الفساد، وانه العامل المشترك للتحديات الاقتصادية والاجتماعية والادارية التي تواجهنا: فلولا الفساد لكان الأردن بوضع أفضل، وان الحل لآفة الفساد، تقول لنا هذه الأصوات، هي الحكومات البرلمانية المنتخبة.

فلنبدأ إذا من مؤشر مدركات الفساد لعام 2020 والصادر عن منظمة الشفافية الدولية (ونسب البطالة كمؤشر لنجاح المنظومة الإدارية في الدول)، حيث جاء الأردن (نسبة البطالة 25%) في المرتبة 60 من بين 175 دولة تمت تصنيفها. والملاحظ ان سلوفاكيا (5%)، احدى دول الاتحاد الأوروبي، جاء في نفس المرتبة. كما جاءت كل من كرواتيا (7%) وبلغاريا (5،5%) وهنغاريا (4،5%) ورومانيا (5،6%)، وهم جميعا من دول الاتحاد الأوروبي، في مراتب بعد الأردن، أي انهم أكثر فسادا. ومن الملاحظ أيضا ان اليونان (15%) جاءت في المرتبة 59، أي نقطة واحدة قبل الأردن، وإيطاليا (9%)، احدى عمالقة الصناعة في العالم، في المرتبة 52، أي 8 نقاط فقط قبل مرتبة الأردن. اما نيجيريا (33%)، الغنية بالنفط والغاز والمعادن، مصنفة بالمرتبة 149. العامل المشترك بين جميع هذه الدول، وغيرهم لا مجال لذكرهم، هو ان نظام حَوكَمَتهم هي الحكومات البرلمانية المنتخبة، مما يؤكد ان هذا النظام، بحد ذاته، ليس كفيل برخاء الدول ومواطنيها لان عدد من البادان التي تقع ضمن ادارتهم ليست خالية من الفساد. كما يمكن الاستنتاج بأن لا علاقة مباشرة بين معيار الفساد ونسب البطالة. وبمعنى اخر، كون الأردن في المرتبة 60 في معيار الفساد العالمي ليس سبب مباشر لمعاناتها من نسبة بطالة وصلت الى 25%. فما هو السبب.

دعونا الان ننظر الى المؤشر من منظار اخر، ونسأل أنفسنا إذا كان هنالك دول لا توجد فيها حكومات برلمانية منتخبة، ولكن تقع في مراتب متفوقة عن الأردن في مؤشر الفساد. فالجواب هو بالإيجابي، وهم الامارات العربية المتحدة (2%)، قطر (0%) والمملكة العربية السعودية (5،7%). فهل هذا دليل بان إذا كانت الدول غنية فهي لا تحتاج الى حكومات برلمانية منتخبة ما دام مواطنيها يستمتعون بالرخاء.

وإذا نظرنا الى الدول التي تتفوق في المؤشر، مثل الدنمارك (4،8%) وفنلندا (6،6%) وسنغافورة (4،3%) والسويد (6،6%) والنرويج (3،3%) وهولندا (3%) وغيرهم، وهي ايضا دول التي تتمتع بأعلى مراتب الرخاء، وتدير شؤونها حكومات برلمانية منتخبة. فاذا السؤال هو لماذا دولة مثل الدنمارك الشبه قطبية لديها نسبة بطالة اقل من 5%، اما اليونان التي تعتبر جنة سياحية فيها نسبة بطالة وصلت الى 27% عام 2014، وكلاهما في الاتحاد الأوروبي وتديرهما حكومات برلمانية منتخبة؟ ولماذا دولة مثل المانيا التي تقع في المرتبة 9 على المؤشر وتستورد 98% من احتياجاتها من الطاقة لديها نسبة بطالة حوالي 6% اما نيجيريا التي لديها نسبة بطالة 33% وهي بلد مصدر للغاز والنفط والمعادن الثمينة مثل الذهب، وتدير كلاهما حكومات برلمانية منتخبة.

فيمكن الاستنتاج من الأمثلة السابقة ان ليس هنالك علاقة مباشرة بين الدول التي تديرها حكومات برلمانية منتخبة، ورخاء مواطنيها او نسب الفساد فيها. فلماذا إذا نعتقد ان مرتبة الأردن في تصنيف الدول الفاسدة ستتحسن، وأنها ستصبح بلد يسود فيه الرخاء، ونسب البطالة فيه ستصل الى المعدلات المقبولة في حال أصبح من يدير احوالنا حكومات برلمانية منتخبة، او بمعنى اخر، ان يقوم حزب فاز بأعلى نسبة مقاعد في مجلس النواب بتشكيل الحكومة. فبعد الاطلاع على تجارب الدول، لماذا نعتقد ان الوضع في الأردن سوف يكون أفضل من اليونان او ايطاليا على سبيل المثال عندما تصبح ادارتنا بيد حكومة تتمتع بأغلية المقاعد في البرلمان؟ لماذا نعتقد، على سبيل المثال، ان مثل هذه الحكومات كانت ستمنع خصخصة مقدرات الأردن، بينما مثيلتها في المملكة المتحدة قامت ببيع ما يقرب 38٪ من البنية التحتية البريطانية لمستثمرين أجانب. (مطار هيثرو مثلا، رئة المملكة المتحدة، مملوكة من قبل شركة اسبانية 25%، حكومة قطر 20%، حكومة سنغافورة 11%، الحكومة الصينية 10%، مقاطعة كويبيك الكندية 12% وغيرهم). لماذا نعتقد ان حكومة برلمانية اردنية كانت ستبقي مطار الملكة علياء الدولي، او شركات البوتاس والفوسفات والاتصالات كما كانوا. ولماذا نعتقد ان حكومة منتخبة اردنيا لن تضلل المواطنين في أي شأن، بينما الأحزاب البريطانية ضللت البريطانيين ليقوموا بالتصويت لصالح الانفصال من الاتحاد الاوروبي في الاستفتاء الذي جرى لهذه الغاية، ليتم الاكتشاف فيما بعد انه تم التغرير بهم.

السؤال المشروع الان هو إذا ما سبب تفوق الدول التي تتمتع بأقل نسب الفساد واعلى نسب الرخاء إذا السبب لا يكمن في الحكومات البرلمانية المنتخبة. للجواب على هذا السؤال يجب العودة على تاريخ هذه الدول. فهذا النهج السياسي لم يأتي نتيجة اجتماع عصف ذهني او كبسة زر، بل تبلور حتى النضوج، غايته حماية القيم الجوهرية التي تجمع وتوحد البلاد، وللتدقيق على اعمال الحكومات لكي لا تستحوذ على منافع خاصة لها خلال فترة توليها قيادة شؤون البلاد، مما سيؤدي الى فساد هذه القيم الجامعة التي أدت الى رخائها. والاهم من ذلك كله، المحافظة على كبرياء ومناعة إدارة الدولة، لان أغلي ممتلكات الدولة هو الجهاز الذي ينفذ البرامج والخدمات التي تأتي بالرخاء للمواطنين، الى جانب الأجهزة التي تحافظ على أرواح المواطنين وحقوقهم. وأُذَكِر هنا مرة اخرى ان المانيا الحديثة ورثث ادارتها منذ زمن الإمبراطورية البروسية والتي كانت المانيا جزء منها، وحافظت عليها جميع الحكومات بما فيها الحكومة الفاشية التي زعمها ادولف هتلر والذي لم يمسها لأنه كان يعلم ان قوة وعظمة المانيا الذي كان يصبو اليه تعتمد على إدارة الدولة. فما قيمة احتلال ما كان يريد ضمه بدون جهاز اداري يدير البلاد الجديدة.

ان تسليم إدارة الدولة، أي الخدمة المدنية، في الوضع الذي هو فيه اليوم الى سلطة منتخبة لن يأتي باي منفعة جديدة لا للبلاد ولا للمواطنين. فهو بمنتهى السذاجة الاعتقاد ان الحزب السياسي الحاكم الجديد سينظر الى مصالح الحزب بشكل منفصل عن المصالح العليا للبلاد. فقد شاهدنا ونشاهد كيف وصلت أحزاب الى سدة الحكم وبدأت تستغل الفراغات التشريعية والقانونية والتنظيمية لتعزيز مكانة الحزب لتقوم بالاستيلاء على السلطة لتامين بقائها. وشاهدنا كيف تقوم بتوزيع المنافع للمحسوبين عليها لتثبيت مكانتها وتوسيع قواعدها. فما هو الضمانة اليوم ان بدل ما قامت الحكومة الأردنية بمنح 100 وظيفة لأبناء المتقاعدين العسكريين ان تقوم حكومة منتخبة بمنح 1000 وظيفة لأبناء كوادرها. وإذا جاء الجواب بان هنالك أجهزة رقابية وبرلمان يدقق، فالجواب أيضا ما منفعة هذه الأجهزة إذا كان اغلبية أعضاء المجلس النيابي من الحزب الحاكم. وما هي الضمانة ان لا يقوم الحزب الحاكم من تفضيل منتسبيها ومموليها في العطاءات الحكومية، او تعيين القضاة الموالين له في المحاكم العليا كما رأينا في أعرق الديمقراطيات.

الحكومات البرلمانية المنتخبة لا تأتي بوزراء مختصين بحقائبهم الوزارية. فعلى سبيل المثال، رئيسة الجامعة الامريكية في واشنطن والتي زارتنا هنا في عمان في بداية السنة الماضية ليست طبيبة، ولكن عملت كوزيرة صحة في عهد الرئيس أوباما. وزير الصحة البريطاني الحالي ليس طبيب. وزير الخارجية البريطاني الحالي محامي. فالاعتماد الكامل لهؤلاء الوزراء، وغيرهم في مثل هذه الأنظمة، هو على الجهاز الإداري الحرفي التي تقدمه الدولة لهم لتنفيذ برامج احزابهم حال فوزهم بالانتخابات.

إذا كانت رفعة الأردن ومناعتها ورخاء مواطنيها هدف، فما يحتاجه البلاد اليوم هو التركيز على تطوير الجهاز الاداري ليصبح جهاز حرفي وقوي ومنيع يستطيع خدمة مصالح البلاد ومواطنيها. وليتمكن مثل هذا الجهاز من القيام بأعماله بأفضل وجه، فيجب حمايته من العبث والتدخلات من خلال تأمين استقلاله الكامل كما هو الحال في الدول المتطورة التي تديرها الحكومات البرلمانية المنتخبة الناجحة. ففي هذه الدول، تقدم الدولة جهاز الخدمة المدنية لخدمة الحزب الحاكم لتمكينه من تنفيذ برامجه، وليس للعبث به. فسر رخاء هذه البلاد يقع في ادارتها الحصيفة المستقلة التي تخدم الحكومات البرلمانية المنتخبة المتعاقبة. إدارة الدولة هي مرساة الدولة والكفيلة بنجاحها واستمرارها. ان تسليم إدارة شؤون البلاد لحكومات برلمانية منتخبة بدون تأسيس وتمكين جهاز خدمة مدنية حرفية مستقلة هي بمثابة بناء جسر على قواعد لا تستطيع حمله.