تسونامي الموت.. كيف تحوَّلت الهند إلى أكبر كارثة عالمية لوباء كورونا؟

يُعرف "كومبه ميلا" بأنه أكبر تجمُّع سلمي للحجاج في العالم، يُقام كل أربع سنوات، في دورة بين أربع مدن هندية هي الله آباد وهاريدوار وأوجان وناشيك. لمدة شهرين، تُقام العديد من الطقوس والاحتفالات، ويلتقي رجال الدين من كل الأطياف الهندوسية مع الناس، لكن الطقس الأهم لا شك هو نزول ملايين البشر إلى نهر الغانج لكي يغسلوا خطاياهم، ثم يُولدون من جديد.

في يناير/كانون الثاني (1) من العام الحالي 2021 تحديدا، لفت هذا الطقس الديني انتباه العالم كله، هذه المرة بسبب المخاطر المتوقَّعة من تجمُّع عدد هائل من البشر معا، كانت الحكومة الهندية متفائلة، فخلال نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، ويناير/كانون الثاني من العام الجديد، اتجهت أعداد الحالات اليومية ناحية انخفاض جذري، خرج بعض السياسيين والعلماء في تلك الأثناء للقول إن الهند قد نجحت في مواجهة "كوفيد-19″، وبقي أن نحتفل بالانتصار، لكن بحذر.



مثل أي دولة نامية، واجهت الهند مشكلات مع "كوفيد-19″، كان التزام الناس بالإجراءات مرتبط فقط بتجنُّب الغرامات قدر الإمكان، خارج البنوك والمصالح الحكومية يمكن أن تجد الناس يتبادلون الكمامات للدخول، وفي المواصلات العامة يرتدونها مع اقتراب ضابط الشرطة الواقف إلى جوار إشارة المرور، هذا النوع من التساهل شاركت فيه الدولة أيضا بتسهيل إقامة بعض المهرجانات والأحداث الشعبية، على رأسها "كومبه كيلا".



حاليا، تُسجِّل الهند رقما قياسيا (2) عالميا جديدا لحالات "كوفيد-19″، حيث سجَّلت الدولة نحو 350 ألف حالة يوميا بحلول نهاية إبريل/نيسان 2021، مع حالات وفاة يومية تتخطى حاجز الـ2500، بعد أن كانت تُسجِّل نحو عشرة آلاف حالة يوميا بحلول نهاية فبراير/شباط الفائت، المُثير للتساؤل هو أن هذه القفزة تطلَّبت نحو أربعة أسابيع فقط لتحدث، كيف يمكن أن يرتفع عدد الحالات اليومية بهذه الصورة؟!


خلال عام 2020، أُشيد بالهند في كل أنحاء العالم بسبب سياسات الإغلاق السريعة والفعَّالة، خاصة مع عدد سكانها الكبير الذي يتجاوز مليار مواطن، ما يعني أن هناك كارثة كبيرة مُحتمَلة إذا انتشر الوباء بها، لكن على الرغم من ذلك كانت هناك انتقادات للحكومة لسماحها بتخفيف القيود بسرعة كبيرة، خلال نهاية العام الفائت وبداية العام الجديد، وخلال نهاية شهرَيْ فبراير/شباط ومارس/آذار الماضيين قاوم (3) ناريندرا مودي، رئيس الوزراء الهندي، المطالبات بإعادة تطبيق إجراءات الغلق على مستوى البلاد.

لكن على الرغم من كل تلك الاعتراضات، أُقيم "كومبه ميلا" هذا العام، كذلك سمحت الدولة بمهرجان احتفالي آخر يُسمى (4) "هولي فاغوا" أو مهرجان الألوان، ويُقام في الفترة بين نهاية فبراير/شباط وبداية مارس/آذار، حيث يتجمع ملايين الناس احتفالا بموسم الحصاد وخصوبة الأرض ووداع فصل الشتاء واستقبال فصل الربيع، أضف إلى ذلك أن الانتخابات الهندية أُقيمت في موعدها هذا العام ببعض الولايات، ما زاد الطين بلة.

تسبَّب ذلك كله في حالة تراخٍ هائلة في جميع أنحاء الهند، وفي بيان حكومي، قال سريناث ريدي، رئيس مؤسسة الصحة العامة في البلاد، إن (5) "الانخفاض في الوفيات بين أكتوبر/تشرين الأول 2020 ويناير/كانون الثاني 2021، أدَّى إلى ظهور اعتقاد شعبي بأن الخطر قد انتهى بالكامل، تعزَّز ذلك بتأكيدات واثقة من بعض الخبراء والسياسيين بأن الهند قد حقَّقت مناعة القطيع"، وكان هذا واحدا من أسباب ضياع المكسب الأهم في تاريخ البلاد الحديث.


الحديث عن مناعة القطيع في الهند كان مُبرَّرا بعض الشيء، حيث أشارت بعض الدراسات (6) الكبرى في الهند إلى أن نسبة 50% من سكان بعض المدن الكبرى أُصيبوا بالمرض بالفعل، ما يعني أن انتشار المرض كان من المفترض أن يتوقَّف، لكن هذه الدراسات عادة ما كانت تحصل على عينات من فئات محددة، من المتعلمين مثلا من سكان المدن، أو فقراء الحضر، أو غيرهم، ما يعني أنها يُحتمل أن تُفوِّت فئات أخرى من الناس، مثل الفقراء في القرى، التي قد تكون بؤرا ساكنة يمكن أن تنفجر في أي وقت.



بحلول نهاية مارس/آذار، أقرَّت الحكومة الهندية بالزيادة المطَّردة لحالات الإصابة بـ "كوفيد-19″، وطلبت من الولايات اتخاذ إجراءات احتواء صارمة، تضمَّنت زيادة في عدد الاختبارات اليومية، وتتبُّع الحالات، وتوفير مستلزمات المستشفيات، والتطعيم ضد المرض، وألقى بيان صحفي صادر عن الحكومة مسؤولية الموجة الثانية على "التراخي بين الجميع" (7).




كان مركز انطلاق الموجة الثانية هو ولاية ماهاراشترا غرب البلاد، ثالث أكبر ولايات الهند من حيث المساحة وثانيها من حيث عدد السكان، وأغنى الولايات في الوقت نفسه، سجَّلت ماهاراشترا أكثر من مليون حالة جديدة منذ بداية إبريل/نيسان وحتى منتصفه، وهي الآن في حالة إغلاق جزئي بالفعل حتى الأول من مايو/أيار.(8)

أما العاصمة دلهي فقد دخلت قبل نحو أسبوع في إغلاق جزئي لمدة ستة أيام، حيث سيُسمَح للخدمات الأساسية فقط بالعمل. ولايات أخرى (9)، مثل أوتار براديش، الأكثر اكتظاظا بالسكان في الهند، وراجستان وكارناتاكا وهاريانا وكيرالا وتاميل نادو وماديا براديش وجوجارات، شدَّدت القيود على سكانها، مثل فرض حظر التجول الليلي، والحظر على التجمعات الكبيرة، لكن كل تلك القيود المفروضة حتى الآن لا تُقارَن بما حدث في 2020.

تلك الإجراءات، للأسف، لن تمنع ذروة الموجة من التقدُّم للأمام، وحتى مع تشديد الإجراءات المُتوقَّع خلال الفترة القليلة القادمة، فإن أعداد الحالات قد وصلت بالفعل إلى نقطة انهيار المنظومة الصحية (10). إذا تجوَّلت في أحد المستشفيات بالهند يمكن أن تلاحظ أن سريرا واحدا يحتوي على شخصين وثلاثة، الطرقات مكتظة بقوائم الانتظار، والجنازات الجماعية أصبحت ملمحا للبلاد وتُنشر صورها عبر الإنترنت إلى كل العالم، لكن المأساة الأكبر الآن هي نقص الأكسجين.



في الواقع، فإن الهند لا تواجه مشكلة تحديدا في نقص الأكسجين نفسه (11)، فهي تُنتج أكثر من 7000 طن يوميا منه، وفي أقصى احتياجاتها فإن مستشفيات البلاد، في المجمل، تطلب ما هو أقل من ذلك بعدة مئات من الأطنان، لكن المشكلة الأساسية كانت في الضغط على أنظمة التوزيع بين الولايات، حيث يحتاج نقل الأكسجين إلى سيارات، وأدوات حفظ، ذات طبيعة خاصة لا تتوفر بكمٍّ كبير.

أضف إلى ذلك وجود درجة واضحة من سوء التخطيط والتوزيع ظهرت مع اشتداد الأزمة، حيث حصلت بعض الولايات على كميات أكبر من احتياجاتها من الأكسجين، ما تسبَّب في نقص بالولايات الأخرى. الخلاصة أن موجة الوفيات ارتفعت فورا حينما بدأت مشكلة الأكسجين في الظهور، لأنه الحل الوحيد للتعامل مع الحالات الخطيرة للمرض.

على الجانب الآخر، تواجه جهود تلقيح المواطنين في الهند عدة مشكلات مُتعلِّقة أيضا بالتوزيع والتخطيط، فرغم أن البلاد قدَّمت أكثر من 100 مليون جرعة بحلول منتصف إبريل/نيسان، وهو رقم هائل يضعها في مرتبة مُتقدِّمة عالميا، فإنها سرعان ما عانت من مشكلة نقص اللقاحات (12)، وأغلقت بالفعل بعض مراكز تقديم الخدمة في البلاد، وأشار المسؤولون في "معهد مصل الهند"، أكبر مصنع للقاحات في الهند والعالم كله، إلى أنهم لن يكونوا قادرين على رفع الإنتاج اليومي للهند قبل شهر يونيو/حزيران بسبب نقص التمويل، الذي يعود إلى تراخي الدولة في دعم إنتاج اللقاحات للاستخدام المحلي، أثناء انخفاض الحالات.



لهذا السبب وضعت الهند حاليا تعليقا مؤقتا على جميع صادرات لقاح أكسفورد-أسترازينيكا، لأن الجرعات كانت مطلوبة عاجلا داخل البلاد، وسمحت باستيراد اللقاحات الأجنبية، بالدرجة الأولى اللقاح الروسي "سبوتنك-في"، وقد تسبَّب ذلك كله في أزمة لبلاد أخرى كانت تنتظر الحصول على لقاحاتها من الهند.



لكن بجانب كل تلك الأسباب التي يُعتقد أنها كانت ذات علاقة بالموجة الهائلة التي تواجهها الهند حاليا، سواء سوء التخطيط أو التراخي في إدارة الإغلاق أو مشكلات التلقيح، يبقى سبب آخر يعتقد فريق من الباحثين أنه ساهم في المشكلة، وهو تحوُّر جديد للفيروس ظهر في ولاية ماهاراشترا (بؤرة انطلاق الموجة الجديدة)، وأعلنت عنه الحكومة الهندية في 24 مارس/آذار (13)، حيث قالت إن 15-20% من الإصابات تعود إلى سلاسة مُتحوِّرة من الفيروس تحتوي على طفرتين غير عاديتين هما "E484Q" و"L425R"، وقد سُمِّي المتغير الجديد للفيروس "B.1.617″، وبسبب الطفرتين سُمِّي أيضا "المتطفرة المزدوجة".

لا نعرف الكثير بعد عن هذا المتغير الجديد للفيروس، لكن بسبب معرفتنا السابقة بهذه النوعية من الطفرات، فإننا نعتقد أنه ساهم في الدفع بهذه الموجة الهائلة من الإصابات إلى أقصاها، حيث قد ترفع الطفرات من قدرة الفيروس على الانتشار بين البشر، أو تُمكِّنه من التمسُّك أكثر بمستقبلاته في الجسم. يُشير البعض في تلك النقطة إلى ما حدث في البرازيل أواخر العام الماضي، حيث تزامن تفشي المرض في مدينة "ماناوس" كثيرا مع انتشار متغير من الفيروس شديد القابلية للانتقال يُعرف باسم "P.1".

لكن ذلك كله غير مؤكَّد بعد، ويتطلَّب الأمر المزيد من البحث العلمي خلال الأسابيع القليلة التالية، كما أننا لا نعلم حتى الآن مدى تأثير هذه الطفرة على خطورة الفيروس، لكن النقطة الأهم التي تشغل اهتمام معظم الباحثين مُتعلِّقة بمدى تأثير هذه الطفرة على فاعلية اللقاحات المتاحة في الهند أو كل العالم، حيث شكَّك البعض في قدرة اللقاحات على مقاومة هذا المتغير الجديد، لذلك أغلقت بعض الدول خطوط الطيران مع الهند تحسُّبا لأية خطورة مُتوقَّعة. (14)


في كل الأحوال، فإن ما نتعلَّمه من التجربة الهندية القاسية الحالية هو أن اصطلاح "موجة ثانية" أو "موجة ثالثة" قد يكون مُضلِّلا، ذلك لأن الفيروس لا يختفي بالمعنى الذي يفهمه الناس، فيتسابقون على الخروج والاحتفال، لكن الفكرة أن هناك بؤرا جديدة تنفجر فجأة بعد هدوء قد يقصر أو يطول، يشبه الأمر أن تُلقي بحفنة من الرصاصات في النار، كل فترة قصيرة تنفجر واحدة منها.

الأمر كذلك في حالة كورونا المستجد، فرغم أن بعض دول العالم العربي تواجه انخفاضا في أعداد الحالات، والبعض الآخر قد نسي أصلا أن هناك فيروسا شرسا يتجوَّل في الطرقات، ربما لأنه ملَّ من أخباره، فإن بؤرا جديدة قد تظهر في أي وقت، قد تُسبِّبها نشاطات بشرية تظن أنها عادية، مثل تزاحم الأعياد أو المهرجانات، أو حتّى فرح أو جنازة أو مباراة كرة قدم، إلخ.

الحقيقة الواضحة إلى الآن هي أن "كوفيد-19" لم يذهب بعيدا، وقد يظهر في أي وقت ظهورا هائلا، لذلك يجب على الجميع الالتزام قدر الإمكان بالإجراءات والحصول على اللقاح حين توفُّره، وعلى الرغم من أن تلك تبدو نصيحة تقليدية، فإننا -مع الأسف- لا نملك غيرها حتى الآن.

 
المصدر : الجزيرة