رمضانيات 29 : " وسيجنبها الأتقى "
سورة الليل من السور قليلة التداول بالتفسير لدى كثير من الوعاظ والمتحدثين، واحتوت ايات ذات معان تكررت في سور أخرى، واختصت بايات لم تتكرر ايضا }(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( 16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ (21).{
ما يميز هذه السور: انها تحدثت عن فضل انفاق المال باخلاص مع ربطه بجزاء اليوم الاخر بشقيه: الجنة والنار وتكررت مرتين للتأكيد. ابتدأت الاية بقسم من الله ببعض اياته لبيان عظمتها: والليل- والنهار - الذكر والأنثى. ثم تحدث عن حقيقة اختلاف البشر في اعمالهم، وهو تبعا لاعتقادهم واخلاصهم (إن سعيكم لشتى) . ثم يأتي بيان الاعمال الفاضلة المطلوب، وقد بدأ بالاعمال التي يتعدى نفعها للغير (فأما من أعطى واتقى) ومن أكثرها الزكوات والصدقات مع ضرورة توفر النية وتحري الاخلاص، ثم جاءت الايات الدالة على بعض اركان الايمان (وصدق بالحسنى)، الايمان باليوم الاخر وما به من جنة.
هذه الصفات تؤهل العبد ان يجعل طريقه كما وصف ميسرا (فسنيسره لليسرى} أي كل عمل الخير وللتاكيد على أهمية الابتداء في انفاق المال: جاء المقابل المعاكس (وأما من بخل واستغنى) وقدمه على ركن الايمان باليوم الاخر وجنة الجزاء (وكذب بالحسنى) للدلالة مرة اخرى على افعال الخير المتعدية النفع للاخرين واهمها انفاق المال.
مرة أخرى يؤكد الخالق سبحانه على حقيقة ربما لم ترد الا في هذه الاية (وسيجنبها الأتقى) وهي الشق الاخر للايمان باليوم الاخر: وجود النار وجزائها، وجعل الشرط الاهم (الذي يؤتي ماله يتزكى) بمعنى انفاق المال في الزكوات والصدقات، لتزكية النفس كما جاء في قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا). وأكدت الايات مرة أخرى على قصد الاخلاص وربطه بنتائج العمل عند الله (وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) والنتيجة النهائية وعده ربه وعدا لا شك فيه في الاخرة (ولسوف يرضى). ولا ننسى الاشارة هنا الى جواز اظهار الزكاة كما فسر بعضهم الاية من باب حض الاخرين على الاقتداء، مع تحري الاخلاص في الامر (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة:271)
المال- نعمة كان أو نقمة- محبب للنفوس، ويحتاج انفاقه لمجاهدة النفس لنيل درجة البر الرفيعة (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (آل عمران:92). لذلك جاء ربط ركني الصلاة والزكاة في كثير من الايات كما في قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ). كما ربط الجهاد بالنفس بالجهاد بالمال أيضا في كثير من الايات (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) للتاكيد على حقيقة عظيمة عن فضل واثر العبادات متعدية النفع للاخرين كانفاق المال والجهاد.
فلا ننسى فيما تبقى من أيام هذا الشهر هذه المعاني العظيمة. وتقبل الله صيامكم وزكواتكم وصدقاتكم، ولا تنسونا من صالح دعائكم.