ما بعد الشيخ جراح .. الوضع الاستراتيجي الجديد




يتطلب أي مسعى جدي للإستفادة من دروس ما جرى ويجري مؤخراً في فلسطين ضروره الابتعاد عن الاحلام والاوهام والامتناع عن الجموح في الخيال والآمال بقرب زوال اسرائيل والقضاء عليها نتيجة لنجاح حماس المبارك في قصفها بالعمق وقصف كبريائها وتحجيم جموحها العسكري.

العدوان الاسرائيلي الأخير عدوان متشعب ومتعدد على كامل أرض فلسطين والشعب الفلسطيني . إن كيفية ومستوى رد الفعل الفلسطيني على ذلك العدوان قد يكون أهم تطور حصل للقضية الفلسطينية منذ ثلاثة عقود، أي منذ توقيع اتفاقات أوسلو، نظراً لجدية وندِية ذلك الرد وفعاليته في إذاقة الاسرائيليين للمرة الأولى جرعة من نفس دوائهم المر والمرير.

الإنجاز الفلسطيني لا يتمثل في امتلاك القدرة على الردع بمفهومه العسكري، فهذا لم يتم حتى الآن، واسرائيل ما زالت متفوقة عسكرياً بشكل حاسم . الانجاز الفلسطيني الحقيقي تمثل في عنصر المفاجأة وفي القدرة على الاستمرار وفي الردع النفسي الذي وفره ذلك . اسرائيل تعلم الآن أن الحاق الأذى بالفلسطينيين سوف يؤدي بالمقابل الى الحاق الأذى بالإسرائيليين. هذا هو الردع النفسي وهو أحد أهم انجازات المعركة الأخيرة .

ما نحن بصدده هو التغيير في معادلة الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني وانتقالها من مرحلة تلقي الضربات الاسرائيلية بخنوع وقَدَرية الى مرحلة الندية في الرد حتى ولو كان ذلك على مستوى عسكري أضعف من ذلك المتوفر لإسرائيل.

الأوضاع في فلسطين لن تعود لسابق عهدها. ما شاهدناه وعشناه في الأيام الأخيرة هو مخاض استراتيجي جديد هز مرحلة أوسلو من جذورها وعصف برموزها ومؤسساتها بشكل كامل.

التطورات الأخيره تمتاز بأبعادها الاستراتيجية وتأثيرها الواضح على كل أطراف الصراع: الفلسطينيون والاسرائيليون والعرب والعالم . وبغض النظر عن النتائج العسكرية أو التدميرية لحرب اسرائيل الرابعة على غزة، فان هنالك مجموعة جديدة من الحقائق وجدت لتبقى وأصبحت جزأً من واقعنا الجديد .

أولا : فلسطينياً :-

1. سقوط السلطة الفلسطينية ورموزها وسقوط فلسفة أوسلو وما تمخض عنها. محمود عباس والسلطة الفلسطينية قد إنتهوا فعلاً لأن موازين القوة ومفاتيح الصراع قد انتقلت من حركة فتح ومدرسة أوسلو الاستسلامية الى حركة حماس ومدرسة المقاومة والردع، أي عودة العمل بمفهوم المقاومة والنضال كأسلوب أساسي لكيفية التعامل مع الاحتلال .

2. إعادة توحيد الشعب الفلسطيني من خلال النضال والتكاتف والتعاضد في سبيل القضية . يعتبر هذا التوحيد انجازاً استراتيجياً هاماً كونه يشكل تهديداً مباشراً للمخططات الاستراتيجية الصهيونية لتفتيت الشعب الفلسطيني وتحويله الى مجموعات يسهل امتصاصها والسيطرة عليها في كافة المناطق المحتلة والاستفراد بها كمجموعات صغيرة بأولويات مختلفة. وهذا الواقع المصطنع ابتدأ ينحسر تحت معول الظلم والاضطهاد الاسرائيلي والغضب والرفض الفلسطيني . إن إعادة توحيد الشعب الفلسطيني على كامل الأرض الفلسطينية يجئ الآن على قاعدة وحدة المصير وأولوية الحق الفلسطيني في الحرية والكرامة الوطنية والتحرير.

3. انتقال القضية الفلسطينية من قضية محلية لا تشكل أي خطورة على الهدوء وإلاستقرار الاقليمي والدولي، الى قضية إقليمية متفجرة ذات أبعاد خطيرة على السلم الدولي والاستقرار الاقليمي، مما يستدعي اهتمام العالم لضرورة التوصل الى حل عادل للقضية الفلسطينية .

4. ارتفاع ملحوظ في سخونة أدوات الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني وانتقالها مباشرة الى المرحلة الصاروخية متجاوزة العديد من أدوات الصراع العسكرية التقليدية . لقد سمح هذا التطور للفلسطينيين بإختصار المدة الزمنية والعقبات اللوجستية في محاولاتهم للوصول الى القدرة على الردع ولو جزئياً . وهكذا فإن قفز الفلسطينيين من مرحلة البحث عن البندقية إلى مرحلة إمتلاك قوة ردع صاروخي بقدرات تصنيع فلسطينية سوف يساهم في تحجيم الغرور العسكري الاسرائيلي وإعادة الاسرائيلييين الى صوابهم .

5. نجح الفلسطينيون في تعزيز مصداقيهم أمام العالم من خلال دقة المعلومات والصدق والقدرة على ربط تهديداتهم وانذراتهم بالقدرة على تنفيذها .

ثانياً : اسرائيلياً :

1. سقوط الديموقراطية في اسرائيل وإنكشاف الغطاء على الطبيعة الوحشية والعنصرية للكيان الاسرائيلي أمام الرأي العام العالمي بإعتباره قوة استعمارية وحشية عنصرية .

2. تكريس اسرائيل كخطر استراتيجي اقليمي على العرب والقوى الاقليمية الأخرى مثل تركيا وايران وإعتبار سياساتها الاحتلالية والاحلالية والعنصرية خطراً على السلم الدولي .

3. بداية تبلور الاحساس بين اليهود بأن فلسطين ليست وطنهم وأن المواطنة الاسرائيلية هي عبارة عن ادخال مؤقت وأن المجتمع الفلسطيني عَصّي على الذوبان داخل المجتمع الاسرائيلي .

4 . لقد ساهمت الحرب الأخيرة في تبلور الاستقطاب داخل المجتمع اليهودي الاسرائيلي بين اليمين الديني والمتطرف من جهة والتيار العلماني من جهة أخرى، خصوصاً بعد سيطرة اليمين على الحكم لمدة طويلة . إن ما جرى مؤخراً ساهم في تعزيز ذلك الاستقطاب وفي بلورة الخلاف الحاد والمتزايد في الأسلوب والأولويات بين المتطرفين والعلمانين، وقد تشهد الحقبة المقبلة مزيداً من الاحتقان داخل ذلك المجتمع نتيجة لتفرد اليمين بالسلطة وانتهاجه سياسات عنصرية وممارسات متطرفة سوف تصبغ بالنتيجة مجمل الدوله الاسرائيلية وتزيد من عداء الشعوب ودول العالم لسياساتها ومن دعمهم بالتالي للفلسطينيين باعتبارهم الضحية الرئيسية لتلك السياسات .

ثالثاً : عربياً :

1. عودة الاحترام الجماهيري العربي للقضية الفلسطينية وللفلسطينيين، وسقوط مؤامرة التشويش الصهيوني ضد الفلسطينيين والتي استهدفت إضعاف بل وحتى عكس الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية والتعامل معها باعتبارها قضية خاسرة ميؤوس منها وأن الفلسطينيين الخانعين المستسلمين هم المشكلة وليس الاسرائيليين .

2. إزدياد الهوة بين الموقف الرسمي العربي والموقف الجماهري العربي وازدياد عزلة تلك الأنظمة حيث اتضحت الطبيعة الوحشية والعنصرية للنظام الاسرائيلي الاستعماري العنصري مجدداً، وضعف الأنظمة العربية أمام النفوذ الصهيوني والضغط الأمريكي .

3. سقوط شعار التطبيع والذي يؤكد على ارتباط المصلحة الاستراتيجية العربية بإسرائيل وأن القضية الفلسطينية والفلسطينيين هم العقبة أمام ذلك، ووقف الهرولة العربية الرسمية نحو التطبيع مع اسرائيل حتى ولو كان ذلك الى حين .

رابعاً : دولياً :

1. تطور قناعة دولية بضرورة التوصل الى حل لمشكلة احتلال فلسطين و عودة القضية الفلسطينية الى صدارة القضايا الساخنة التي تهدد السلم الدولي، بعد أن انحسرت نتيجة لمسار أوسلو وهبطت الى حضيض الاهتمام الدولي.

2. تحول قضية الاحتلال الاسرائيلي العنصري الى قضية ضميرية تحظى بتعاطف جماهيري دولي عَبَّر عن نفسه بالعديد من التظاهرات والمسيرات في مختلف دول وقارات العالم شملت اوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا واستراليا.

3. بداية التغيير المعلن في أوساط السياسيين الأمريكيين حتى ولو كان ذلك التغيير بطيئاً والبدء في تعاملهم مع القضية الفلسطينية والفلسطينيين وحقوقهم بشئ من الجدية .


19/05/2021

lkamhawi@cessco.com.jo