نحو أردن منتج ومزدهر (1) - كاثدرائيات الصحراء والفيلة البيضاء



على أعتاب المئوية الثانية، يفخر الأردن بأنه بنى واجترح دولة حقيقية ثابتة الأركان. إنها قصة نجاح لا ينكرها إلا جاحد أو جاهل. دراسة الدولة الأردنية من خلال النظر إلى مؤسساتها يدل على أنها دولة متطورة من حيث التكوين والتنوع، ومفصلة الأداء، وعريضة جدا تغطي تفاصيل كثيرة، لا بل بعضها يشير إلى عراقة يغبطها القاصي عليها والداني. وأوضّح هنا بأنني أتكلم عن مؤسسات الدولة وأجهزتها، ولا أتكلم عن كفاءة الأداء المتوقعة والمأمولة لكل منها على حدةٍ أو مجتمعة من خلال منهجيات وهياكل الحكومات المتعاقبة.

مما لا شك فيه أن الإبقاء على نفس الطرق في الإدارة سيقود حتما إلى النتائج نفسِها، وعليه فإنه من الأساسيات أن تكون الحكومات على معرفة بمطالب واحتياجات وطموحات الشعب المتزايدة والمتشعّبة وخلق الآليات القادرة على بلوغها. حكومات تخطط وتستشرف وهي على علم ومعرفة بما يدور في العالم في القطاعات الاقتصادية والتكنولوجية المختلفة. حكومات تعد وتشرك المواطن الأردني في المنافسة العالمية في العديد من القطاعات.

مع كل مؤسسة تعليمية أو طبية أو بحثية أو خدماتية .....شيدت على امتداد هذا الوطن الغالي، كانت هناك توقعات وطموحات كبيرة مصاحبة لها. كان المأمول من هذه الإنجازات أن تخلق تغييرا واقعيا وملموسا أثره على الأفراد والمجتمعات المحلية وبالتالي كل الوطن. إنجازات تؤدي إلى تغيير مستدام ذات أثر واضح وإيجابي على حياة المواطن. لا بل إنجازات لها اثرها في بناء مشاريع ناشئة وتكتلات اقتصادية حولها. وللحقيقة لم أجد حتى يومنا هذا ما قد أُسمّيه "معامل تأثير إيجابي" للعديد من هذه الإنجازات التي تحولت إلى ما يسمى في الغرب كاثدرائيات الصحراء (بمعنى معزولة وغير متفاعلة مع بيئتها)، وفيلة بيضاء (بمعنى أن استدامتها مكلفة وإلغاؤها صعب). الأمثلة كثيرة على الإخفاقات في المؤسسات والمشاريع التي شيدت، وحتى يكون خطابي مقبولا" سياسيا من قبل الجميع لن أذكر أيا" منها باسمه.

لنأخذ الجامعات ككيانات لها أثرها على الأفراد والمجتمعات والوطن من أجل تغيير إيجابي مستدام يخدم الأمة. لقد نجحت الجامعات في خلق بيئة اقتصادية ناجحة حول حرمها الجامعي يعتمد على تقديم خدمات للأعداد الغفيرة من الطلبة؛ فازدهر سوق المطاعم والإسكان والمكتبات وغيرها وهذا شيء مطلوب ومتوقع وواضح للجميع. لكن للأسف وحتى يومنا هذا لم نجد دَورًا واضحا للجامعات في خلق شبكات تربط طلاب الاختصاص ببعضهم البعض في مجال اهتماماتهم من أجل الإثراء المعرفي والتقني فيما بينهم، وبالتالي تشجيعهم على بدء مشاريع ناشئة فيما بينهم تنقلهم من الوظيفة إلى الاستثمار والانتاج. وللحقيقة لم أجد حتى يومنا هذا "معامل تأثير إيجابي" لدى معظم الجامعات على مستوى توسيع قواعد المعرفة والمساهمة في خلق فرص استثمارية. فالمُناخ الجامعي غير معزز للتواصل بين الخريجين أنفسهم وبين أعضاء الهيئة التدريسية ليفضي إلى ما هو ممكن من خير للجميع. وكنت خلال جائحة الكورونا أتطلع لمساهمات أعضاء هيئة التدريس في التخصصات كافة. فكنا بحاجة للمختصين في الاجتماع والرياضيات والإحصاء والتحليل والتزويد والصيدلة والمختبرات والقانون و.......، لكن للأسف كانت المساهمات متواضعة جدا ومرة ثانية "معامل تأثير إيجابي" لهذه الكيانات العلمية والمعرفية كان دون المستوى وأتسأل أين أولئك الذين نفترض وجود المخزون العلمي لديهم؟ وما الذي قاد إلى هذا التردّي ومن هو المسؤول عن إصلاحه وكيف؟ والسؤال المهم كيف يمكن أن نغيّر الأحوال لتكون الجامعات جاذبة للباحثين والاستثمارات والطلبة والأعمال على المستوى الدولي والمحلي؟

كاثدرائيات الصحراء والفيلة البيضاء ظاهرة موجودة في كل العالم ويسعى الجميع للحد من وجودها. الدور المعلن ومعايير الأداء يجب أن تكون واضحة جدا لأي كيان أو مشروع أو وظيفة. إعادة تقييم الموجود من خلال هذين المصطلحين ضروري جدا وآمل أن أكون وُفّقت في إبرازهما.