دعوة الى مراجعة وتقييم مستواها.. المراكز الصحية اشبه بدكاكين في زمن المولات!!
كتب حاتم الازرعي -
بعد انحسار فيروس كوفيد ١٩،وانخفاض عدد الاصابات والوفيات ونسبة الفحوص الايجابية ، وفي ظل الهدنة المؤقته الحذرة مع جحافل الفيروس متعدد الجنسية ، وقبل الدخول في الموجة الثالثه ، التي لا يستبعدها خبراء الوبائيات وتستعد لها وزارة الصحة، لا بد من وقفة لمراجعة وتقييم واقع الرعاية الصحية الاولية ومستقبلها .
وتشكل المراكز الصحية العمود الفقري للرعاية الصحية الأولية التي يفترض لا بل يجب ان تكون خط الدفاع الاول عن صحة الناس وسلامتهم ،فهل استطاعت ان تنهض بهذا الدور ؟ لا سيما بعد محك وباء الكوفيد الذي نزع ورقة التوت عن عورة عديد من مؤسساتنا وكشف زيف تبجحها بتحقيق انجازات ما هي الا سراب يحسبه الظمآن ماء !!.
وقبل الاجابة على السؤال والدخول في التفاصيل ، لا بد من جردة حساب لواقع المراكز الصحية ، اذ يشير آخر تقرير احصائي منشور الى ان عدد هذه المراكز في انحاء المملكة كافة (676) منها ( 112) شامل ، (377) اولي (187 ) فرعي ، وتواجه ضغطا شديدا ،وزيادة مضطردة في عدد مراجعيها البالغ اكثر ( 12 )مليون زيارة سنويا .
ووفقا لتقارير محايدة عديدة وآراء خبراء ومطلون على الشأن الصحي ،فإن الغالبية من المراكز الصحية تعاني نقصا في الكوادر الصحية ، وسعة لم تعد تحتمل الزيادة المضطردة في اعداد المراجعين، لا سيما ان غالبية المراكز الصحية مستأجرة ، ومصممة لتكون بيوت سكنية ، ناهيك عن سوء توزيع هذه المراكز ، وعدم توفر الخدمات الصحية المساندة كالمختبرات والأشعة ، ونقص الاجهزة والمعدات ، وعدم توفر بعض الادوية وانقطاعها .
وجاء وباء الكوفيد ليعري المشهد الصحي ويفاقم الاوضاع سوءا، وكشف إغلاق العيادات الخارجية لمستشفيات وزارة الصحة والخدمات الطبية والمستشفيات الجامعية عدم كفاءة المراكز الصحية التابعة للوزارة، في سدّ الفجوة الناتجة عن الإغلاق .
ووفقا لاعلان ألما آتا ، فإن الرعاية الصحية الأولية ، ذات صلة وثيقة بالحالات المرضية التي لا تحتاج إلى مستويات متقدمة من الاختصاص الطبي، أو رعاية داخل المستشفيات وكان الاردن من أوائل الدول التي تبنت الإعلان.
وقد التزم الاردن بتنفيذ عناصر الرعاية الصحية من خلال المراكز الصحية،فهل استطاعت هذه المراكز تأدية دورها في رفع كفاءة منظومة الرعاية الصحية الأولية ؟
وحتى لا اجانب الصواب ، اقول ان بعض المراكز الصحية النموذجية من حيث التصميم والسعة وتوفر الكوادر والاجهزة والمعدات والخدمات المساندة كالمختبر والأشعة،شكلت اضافة نوعية ، وادت دورها المأمول ،لكنها محدودة جدا ،ولا تتجاوز في احسن الأحوال عدد اصابع اليدين، فيما غالبية المراكز سجلت ‐ وبلا ادنى تردد‐ فشلا ذريعا .
إن ما تعانيه الغالبية العظمى من المراكز الصحية من مشاكل ،ادت الى تردي خدماتها ، وعجزها عن النهوض بدورها في انفاذ عديد من عناصر الرعاية الصحية ، وكان ذلك ، سببا رئيسا في إثقال كاهل عيادات الاختصاص في المستشفيات بأعباء كان من المفترض أن تنهض بها المراكز الصحية ، التي اظهرت الجائحة على المحك فشلها وعدم قدرتها على سد الفجوة في الخدمة الصحية عندما اغلقت العيادات الخارجية في مستشفيات القطاعات الطبية كافة ابوابها في وجه المرضى ، ما فاقم اوضاعهم الصحية سوءا .
إن مأساة الرعاية الصحية الأولية تتمثل في تشتيتها عبر التوسع في انشاء المراكز الصحية افقيا دونما حاجة فعلية ، وانما استجابة لمطالب قوى سياسية وعشائرية نافذة تسعى لكسب شعبوية ، في ظل نقص حاد في الموارد البشرية والمادية، مما اوجد مراكز صحية هزيلة عاجزة عن اداء اي دور له صلة بتقديم الخدمة الصحية الحقيقية، وهي مجرد ديكور ، ورقم للتباهي بحجم الانجاز في المناسبات واحتفالات الزيف!! .
ويبعث حال عديد من المراكز الصحية على الحزن والاسى والحسرة، فليس لها من اسمها في الغالب الا لوحة صدءة منسية اكل عليها الدهر وشرب تحمل اسم المركز ،وهيهات ان تقرأه من شدة اهتراء اللوحة !!.
في زيارة تفقدية لإحدى المحافظات ،فوجىء وزير الصحة الأسبق الدكتور عبد اللطيف وريكات بوجود مركزين صحيين أحدهما غرب الطريق الصحراوي والثاني شرقه والمسافة تكاد تكون صفر لولا وجود الطريق الفاصل بينهما والادهى والامر وجود مركز صحي عسكري بالقرب منهما .
لاحظوا المأساة وسوء التخطيط والتخبط ،ثلاثة مراكز صحية في دائرة ضيقة جدا ، المسافة بين المركز والآخر " اشعال سيجارة " كما كان يجيبنا ، المهندس راتب مغنم ‐ فرج الله كربه ‐ عندما نسأله مشدوهين عن المسافة بين مركزين .
على اي حال انتهز الوزير وجود ابناء المنطقة في استقباله ، وقال لهم بوضح ان حال المركزين لا يسر ، وانه لا يمكن تحسين الخدمة الصحية في ظل هذا الوضع ،واقترح دمجهما، وانشاء مركز صحي افضل بناء وتصميما وتزويده بعدد كاف من الكوادر الطبية والتمريضية والفنية والإدارية، فثارت ثائرة المستقبلين ، فتراجع الوزير عن اقتراحه، ووضع قصة الدمج‐ كما فعل العديد من الوزراء‐ خلف ظهره .
ولست ابالغ حين اقول ان العديد من المراكز الصحية تفتقد الى ادنى المقومات الواجب توفرها في هذه المراكز ، ويحضرني بالتداعي الحر موقف لا يخلو من طرفة ،فخلال جولة تفقدية لوزير الصحة الأسبق الدكتور نايف الفايز ،اصر سكان احدى البلدات على ترفيع المركز الصحي من اولي الى شامل ، وللامانة اعتذر الوزير عن تلبية الطلب لافتقاد مقومات ومتطلبات التحويل ، فكان الجواب حاضرا " لا نريد ان تزوده بشيء اضافي فقط سمه شاملا " وهذا ما كان فعلت زغاريد النسوة وسر الرجال وهللوا للوزير تهليلا ،وطلبوا الى الصبية احضار اللوحة الجديدة بأسم المركزالصحي الشامل لتعلق مكان اللوحة القديمة ، وهم مندوب التلفزيون بأخذ لقطة للمركز بحلته او لوحته الجديدة ،فطلبنا منه التريث حتى ازالة القديمة !! .
حال العديد من المراكز الصحية يغضب العدو قبل الصديق ، ومن العيب اصلا ان يطلق عليها اسم مركز صحي ، احتراما للناس اولا وللعاملين فيها ثانيا ولمهنة الطب ثالثا ، فما الحل وما العمل ؟؟.
اعتقد جازما ان الحل يكمن في الغاء واغلاق العديد من المراكز الصحية الشكلية واقامة مراكز شمولية تتوفر فيها الكوادر الكافية ولا سيما من اطباء الاختصاصات الرئيسة ، فضلا عن توفر خدمات طب الاسنان والمختبر والأشعة، لتقديم خدمة صحية شمولية متكاملة ،ترقى الى مستوى طموح الناس وتغنيهم فعلا عن الازدحام والمعاناة وطول الانتظار وهدر الوقت والجهد امام العيادات الخارجية في المستشفيات .
واستطيع ان اجزم بأن الناس اليوم اكثر وعيا وتقبلا لفكرة الدمج وعدم مقاومتها، اذا اوضحتها الجهات المعنية بشكل جيد ، واحس الناس بصدق التوجه للتطوير والتحديث ورفع سوية الخدمة الصحية وتحسين جودتها .
اما بقاء المراكز الصحية ضعيفة مشتته ومبعثرة هنا وهناك ، بشكل عشوائي ،فإنه لا يتيح اي فرصة لتطوير وتحديث خدماتها ، وفي ذلك جريمة لا تغتفر بحق الناس في الحصول على الرعاية الصحية الأولية المثلى ، وهناك من تجارب الدمج ما لقي استحسان الناس وتقبلهم بعد مقاومة عنيده ، حين لمسوا فضائله وحسناته ، فعلى الحكومة ان تقوي قلبها ، وتأخذ زمام المبادرة في دمج المراكز الصحية الضعيفة ، واقامة مراكز صحية ،تقدم خدمات افضل ، فعلها بذلك تكفر عن خطاياها ، وتترك للناس ذكرى حسنة تنسيهم سيئاتها ،او بعضا منها !!
وبأختصار شديد فإن حالة المراكز الصحية المشتته والمبعثرة على مساحات شاسعة في مناطق شبه خالية من السكان اشبه ما تكون بالدكاكين في زمن المولات ،مصيرها الى زوال، قصر الزمن او طال .