الهويات الفرعية في مواجهة الدولة



طالما حذرنا من الضرر الكبير الناتج عن تجاهل بناء هوية وطنية جامعة، ذلك أن النظام الحاكم في الأردن ما زال أسيرًا لعبارةٍ شكسبيرية تفيد بأنه "لا يستقر الرأس الذي عليه التاج". فالنظام ما زال أسيرًا للعبة كلاسيكية تستند إلى اذكاء التناقضات المجتمعية وتحويلها إلى آلية للتقدم على السلم السياسي، وهكذا تحولت المحاصصة إلى عقيدة سياسية يستند إليها النظام في لعبة البقاء. ويبدو أن النظام لم يصل بعد إلى مرحلة الثقة بالنفس ليسمح بتشكيل ائتلافات سياسية تتجاوز ما اسماه أمين معلوف بالهويات القاتلة.

فكلمة "طز" التي تلفظ بها النائب أسامة العجارمة في حوار جانبي – والتي جاءت في سياق الاستدراج والتصيد – تحولت لتكون عنوان المرحلة لينبري لها مجلس النواب الذي قزّم مشكلة الأردن بكلمة "طز". طبعا، كان بالإمكان تجاوز الأمر وتجاهله، والاكتفاء بالتأكيد على ضرورة الاحترام المتبادل بين أعضاء المجلس. لكن الدولة -ولا أقول مجلس النواب الذي لا يملك من ارادته شيئا- لم تحتمل هذه الكلمة، وهذا بدوره يؤشر إلى أنها لن تسمح بإصلاح سياسي يفضي إلى برلمان قوي ومستقل يقف ندًا للحكومة.

ما من شك، أن لأعضاء مجلس النواب كل الحق في الاختلاف مع أسلوب زميلهم، كما لهم الحق في الاختلاف مع مواقفه السياسية، لكن المؤسف أن أحدًا في مجلس النواب لم يلتقط جوهر المشكلة واكتفى من دون وعي بمعالجة مظهرها. وعليه، قبل أعضاء المجلس أن يتحولوا إلى أداة طيعة في يد الدولة العميقة. وكأن ذلك لم يكن كافيا، اذ انبرى أيضا مجلس الاعيان للتحريض على تجمع سلميّ متذرعًا بسيادة القانون وهيبة الدولة. المفارقة أن الذي سبب بتراجع هيبة الدولة هي النخب الحاكمة نفسها التي فضلت تجاوز القانون واستغلال كل مسألة لتعظيم مكتسباتها ما أفقدها احترام الناس. وكان مثيرًا للشفقة الطريقة التي تناولت فيها النخب الرسمية الأمر، والحق أنها نخب لم تمتلك الجرأة على اسداء النصح للدولة وانساقت في لعبة تقديم مكتسباتها التي حصلت عليها من دون وجه حق، وهي بهذا المعنى أكثر ولاءً لمصالحها وكأنها تريد تحويل الدولة إلى دولة أوليغارشية.

هذه النخب صاحبة الحظوة هي نخب أداتية غير مسيسة، لذلك يسهل عملية توجيهها لخدمة اجندات هي لا تفهم مراميها. وعلى نحو لافت، لم تبلغ فجوة الثقة بين الأردنيين وبين النخب الحاكمة هذا المستوى من قبل! المؤسف أنه مع تزايد حالة الاحتقان المجتمعي، لا يبدو أن في جعبة الدولة ما يفيد بأنها تسير على الطريق الصحيح، مع إن سكة الإصلاحات السياسية الحقيقية التي تفضي إلى تمكين الشعب الأردني هي واضحة ولا ينقصها إلا إرادة سياسة لم تتوفر بعد.

في سياق أعمق، هناك محاولة من الدولة لاختبار قوة بعض المكونات المجتمعية في تكوين موقف منسق، فالالتفاف الشعبي الكبير من شمال المملكة إلى جنوبها حول النائب العجارمة لا تعني التماهي مع موقفه أو أسلوبه بقدر ما تعني تسجيل موقف وطني ضد الاقصاء والتهميش وضد سياسة تكيف النظام مع الضعف الذي اعتراه في مواجهة الخطر الداهم القادم من غرب النهر. كان لافتًا في الأيام الأخيرة ضعف القراءة الرسمية وتفضيلها المعالجة الأمنية المكلفة للدولة في سمعتها ومكانتها، فوضع الدولة في مواجهة مع العمود الاجتماعي للنظام هو أمر في غاية الغباء.

لكن في سياق آخر، هناك اعتقاد لدى دوائر غربية بأن العشائر والقبائل هي من تقف ضد مخرجات صفقة القرن، وعليه ينبغي اضعافها وتشتيتها وتطويعها. وعلى نحو يثير للدهشة لا تأتي محاولات الدولة لإضعاف هذا المكون في سياق الإصلاح الساسي المستند إلى مبدأ المواطنة، بل في سياق إخراجها من اللعبة السياسية بشكل كامل، والحق أن تيار الليبراليين الجدد وبعض كتاب الحقوق المنقوصة لم يفوتوا أي فرصة للنيل من هذا المكون مستخدمين عبارات حداثية براقة لا تعكس جوهر مواقفهم ولا أسلوب حياتهم. وتحولت صحيفة عربية إلى منصة لشيطنة العشائر بشكل ينسجم مع اجندات مراسلها في عمان. وكان رئيس الوزراء السابق عمر الرزاز – الذي خلق وهم العلاقة الريعية – يحاول ترتيب عقد اجتماعي لا يهدف إلى تحويل الأردن إلى دولة انتاج كما كان يدعي بل لتطويعه وخلق الشروط الملائمة لتكيف النظام مع صفقات قادمة.

باختصار، المشكلة ليست أسامة العجارمة ولا ما يقوله، وللأسف تعيدنا الدولة التي احتفلت للتو بنهاية المئوية الأولى إلى بداية المئوية مع سبق الإصرار، مع فارق أن النظام كان يكتسب أوراقا اقليمية هامة في بداياته، والآن يخسر كل أوراقه غرب النهر. وهنا لا بد عن التأكيد مرة أخرى أن استعادة الوعي الوطني يستلزم أن ننظر إلى ما يجري في سياقه العريض ولا يتم تصوير وكأن هناك مكونًا مجتمعيا يقف ضد حداثة متخلية.