نماذج مسيئة للتعليم والتدريب والتشغيل في الأردن
منذ أقرت الدولة الأردنية عجزها عن مواجهة استيعاب وهضم أعداد الخريجين في مختلف التخصصات الأكاديمية والتقنية وبجميع مستوياتها ابتداء من خريجي الثانوية العامة ودبلوم كليات المجتمع والدرجات الجامعية، فقد أجرت الحكومات العديد من التجارب وطرح المبادرات والمشاريع والخطط والإستراتيجيات التي هدفت نظريا وتنظيرا إلى تحقيق هدفين أساسيين: الأول يتمثل في العمل على استيعاب أكبر عدد من الخريجين في سوق العمل عبر توفير فرص عمل بأية طريقة، والثاني يتمثل في الحد من نسبة البطالة الكلية التي أصبحت رقما مظلما ومفجعا خاصة مع استفحال جائحة كورونا التي زادت من حدة الأزمة حيث تجاوزت نسب البطالة 25% من القوة العاملة، وهي نسبة غير مسبوقة تنذر بأوضاع صعبة في عالم العمل.
فجاءت مقترحات الحلول القاصرة التي أكدت الشواهد أنها ليست حلولا بقدر ما هي ترحيلا للأزمات خشية انفجار الفقاعة الشبابية في وجه المجتمع، ولعدم الرغبة بالاعتراف بالعجز والفشل من قبل الأطراف المعنية بذلك.
حين تقدم النماذج بأن الحلول لمشاكل البطالة تتمثل في التوجه نحو عالم التعليم والتدريب المهني، فهذا صحيح بجزء منه ومفجع في الجزء الآخر. وحين يتم تقديم بعض النماذج المهنية لحملة الدرجات الجامعية الذين لم يجدوا فرص عمل ضمن مجالاتهم الاختصاصية، فيتجهون نحو تعلم حرفة ما، ليتم تقديمهم كنماذج ناجحة باعتبارهم قبلوا بالأمر الواقع، وانخرطوا في عالم الحرف المهنية، هذا المشهد البائس يتكرر في مختلف المحافل واللقاءات والندوات والبرامج التلفزيونية، وكأنه المنقذ والملهم للشباب من أجل الخروج من دائرة البطالة.
الحقيقة المرة أن هذا النموذج مسيء بشكل كبير لكل ما يسمى بالتعليم الأكاديمي والتقني والمهني، وبعالم الأعمال أيضا، فليس أنموذجا صحيحا أن نستشهد بحامل درجة الماجستير في مجال معرفي ما، لكنه تحول للعمل في مجال حرفي محدد المهارات بسبب الحاجة وعدم توافر فرص العمل في تخصصه، وكأننا نريد القول أن كل من يكمل تعليمه الجامعي عليه أن يعمل عودة ونكوص للخلف من أجل تعلم حرفة هي بالأصل موجهة لطلبة التعليم الأساسي، ومن ثم الحصول على فرصة عمل متواضعة.
هذا النموذج من أسوأ ما يمكن تقديمه كحل لمشكلة البطالة، فهو يشوه الفكرة والنظرة للتعليم الأكاديمي بمختلف مستوياته ومجالاته، وهو يقتحم مجالات حرفية مخصصة حسب سلم التعليم لمن أنهوا المرحلة الأساسية وما دون.
إن مقولة أن حل أزمة التشغيل يكمن في التدريب هي مقولة صحيحة بجزء منها عندما يكون الغاية منها استهداف الفئات المعنية بذلك، لا جلب فئات تحمل تخصصات ودرجات عليا لزرع الوهم في وجدانهم بأنه تنتظرهم فرص العمل في المجالات الحرفية، التي لا تستدعي سوى تدريب قصير ومن ثم الانخراط في سوق العمل.
إن الحل أو جزء منه يتمثل في إعادة بناء سلم التوزيع التعليمي على المسارات العلمية والمهنية، وذلك بأن يتم توسيع القبول في مسارات التعليم والتدريب المهني لتصل نسبة الملتحقين ممن أنهوا مرحلة التعليم الأساسي إلى 30-40%، شريطة توفير البنى التحتية والمرافق والأبنية والكادر والمناهج والتجهيزات القادرة علىة استيعاب هذه الأعداد، حينها يتم تعديل سلم الخريجين بشكل معقول يحفظ للتعليم مكانته وللتخصص والمستويات أهميتها.
أما أن يتم مواصلة عملية الخداع بأن التشغيل مرتبط بالتدريب وليس بالمستوى والدرجة العلمية، فهذه خديعة تصلح لترحيل الأزمة مؤقتا عبر مبادرة هنا ومشروع هناك، كلها أثبتت فشلها وعدم مناسبتها لتحقيق أية غاية وطنية تتعلق بالحد من نسب البطالة.
ليس مظهرا سليما أن نرى من يحمل درجة جامعية عليا ويعمل في مجال أو حرفة موجهة بالأصل لمن يقرأ ويكتب فقط.
ليس حلا سحريا أن يتم سرقة فرص العمل من المهنيين المستهدفين بها، لمنحها لمن لا يجدون فرص عمل في تخصصاتهم الجامعية.
إن جائحة كورونا علمتنا درسا صعبا لكنه ليس مستحيلا بقدر ما يتطلب إعادة النظر في مسلماتنا ومفاهيمنا التعليمية، نعم لا بد من المرونة والتنوع في المعرفة والمهارات التي يتلقاها الطالب الجامعي على مقاعد الدراسة، فالتخصص الضيق لم يعد خيارا مناسبا في المراحل الجامعية الأولى، بقدر ما أصبح ملحا أن يتم تنويع المهارات ليكون ثمة بدائل متعددة في سوق العمل سواء من حيث التطور في مجال العمل أو في تغيير المسار المهني والانتقال الوظيفي للفرد.
آن الأوان للوقوف والمراجعة الصادقة والجريئة للتغيير والتجديد التعليمي الذي يعيد تنويع وتوزيع الطلبة على المسارات التعليمية والمهنية بشكل يراعي توفير فرص العمل الحقيقية كلا في مجال تخصصه ومستواه ودرجته العلمية.
آن الأوان لإعادة الاعتبار لمؤسسة التدريب المهني كضامنة وموفرة للتدريب المهني ضمن مجالاتها، ومنحها الصلاحيات والإمكانات الحقيقية ، والتوقف عن التعامل مع هذه المؤسسة الوطنية كمجرد مزود للتدريب مثلها مثل أي مركز تدريبي في غرفتين على سطح بناية، إن هذه المؤسسة هي بيت خبرة وطنية في مجالات العمل والتدريب وحتى التشغيل. ولا ينبغي تهميشها كما هو واقعها الآن بسبب قصر نظر المعنيين أو لوجود انطباعات مسبقة أو مصالح متضادة مع عمل المؤسسة الوطني.
آن الأوان للتوسع الفعلي في التعليم والتدريب المهني الذي يستوعب عشرات الآلاف من المستهدفين به، وذلك بزيادة الموازنات والمخصصات المالية والبنى التحتية مع حوكمة رشيدة لكافة تلك العمليات.
آن الأوان لإعادة هندسة العمل التربوي والتعليمي والتقني والمهني في مختلف مساراته ودرجاته.
سيكون ثمة حديث مطول عما تدعى باتفاقيات التدريب والتشغيل التي أنفق عليها الملايين لكن منتجها يبدو أنه صفر حافظ منزلته .. وهذا بحاجة لأن نفرد له مساحة خاصة.