أما آن الآوان للتوجيهي أن يتنازل عن عليائه؟
أفشلت القرارات المتضادة لوزارة التربية والتعليم القيمة المضافة لامتحان الثانوية العامة الذي ظل حضوره السنوي عملة وطنية ثمينة تؤهل الطلبة دخول سوق المنافسة، والمزاد العلني للفوز بمقاعد دراسية في الجامعات المحلية والخارجية.
وبقي التداخل والتجاذب بين رؤية القائمين على المنظومة التعليمية والطلبة، وأولياء الأمور لفترة ممتدة غير مقلق وفي حدوده الدنيا، لأنه لم يؤسس لحالة انكسار في بنيان المجتمع، وحالة انفجارعند الطلبة وأسرهم.
لكنه اليوم وفي ظل سياسة الارتجال التي تفرض قوانينها كلما حل موعد الامتحان، شكل حالة قلق دائمة الحضور على مائدة العائلات التي ترى في الحصول على الشهادة الثانوية زهرة قطاف جهدهم قبل جهد أبنائهم.
لن ندخل في التفاصيل العميقة لموجة اللجان التي شُكلت على امتداد آخر عقدين من الزمن وحملت عناوين إصلاح التعليم، فانفقت مئات الساعات بهدف النهوض بأركان العملية التعليمية بشكل عام وشهادة التوجيهي بشكل خاص، ليس لأنها لم تحدث فرقاً في ملف التعليم، بل لأن أعمالها بقيت على الأرض ولم ترفع إلى السماء، ولو كان الأمرغير ذلك لوجدنا أقلها معالجات انعكست ولو نسبيا على ملف التوجيهي الذي ناله خلال العقد الأخير موجة سخط، وانتقادات من لدن الكل.
وبحسب خبراء في التعليم لم تعد تركيبة التوجيهي الإشكالية تقيس القدرات الحقيقية للطلاب جراء تضامن السياسة العامة للتعليم مع الاعتبارات السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، ولاحقا هبط عليها العامل الصحي متشعب المآلات.
الجانب المقلق في الموضوع هو مدى قدرة الإدارات التربوية المتلاحقة والتي يفترض أنها مصدات عقلية للتجاذبات على اجتراح الحلول، وحقيقة لو أبقت على الساكن ساكنًا، لكان واقع الحال أفضل مما نحن عليه اليوم، وإن كانت سنّة التطوّر تفرض أحكامها وتفعلُ فِعلها بإصرار.
إذا، هل ما زلنا بحاجة إلى مزيدٍ من البراهين لمعرفة حجم التهتك الذي طال الهيكل التعليمي؟.
إن تنامي الانتقاد للامتحان جراء ما يرافقه من تخبط في إدارته كل سنة، أعطى المسوغ القانوني للطعن بسيرته وبنتائجه حتى لو كانت في إطارها الطبيعي، وهذا بالضرورة يؤشر إلى أزمات دفينة ستطل برأسها كلما دق الكوز بالجرة.
على المسؤول الوطني أن يروض نفسه لتقديم مقاربات لا تخضع إلى المزاجية النسبية، فالتفسير المقلق لهذا الراهن، هو تآكل مصداقية الحكومة، وعدم قدرتها على المعالجة، حيث تشعر أنك في قلب واقع لا وظيفة للمسؤولين فيه إلا النفي، والتعليل، والتبرير.
وحتى لا يفهم من هذا الحديث بأنها: دعوة إلى خيار التساهل مع الطلبة، ومنحهم شهادة الثانوية مكرمة تضاف إلى مكارم الحكومات غير العادلة، إلا أننا مع العقلانية في وضع أسس وأرضية متينة، تراعي كل فروقات الطلبة الذهنية، وبيئات الدراسة غيرالمنصفة والآمنة في مدارس العامة، والوقوف بشكل منطقي على حجم المتغيرات التي طالت كل مناحي الحياة في ظل فيرورس كوني جعل العالم يدور حوله، فشكل علامة فارقة في تاريخ الشعوب، والوطن ليس استثناء من هذا المتغير.
إنَّ ذلك يستدعي تمكين الطلبة وتعليمهم بآلية يحكمها منطق الفهم للمتغيرات، والعقل المتزن لتقديم جيل متعلم واعٍ لقوانين العصرنة والنهضة المأمولة، لا صانع قرار يحكمه ضيق الأفق؛ فيلقي بكل ثقله على إشاعة فنّ الجدل والتنافر، وبناء الحواجز المعيقة للتفاهم مع مجتمع الطلبة، على أساس الامتزاج الطبيعي مع التعلم والتطور.
المطلوب اليوم أن نعالج العَلاقة الحرجة بين أركان العملية التعليمية بسياسات تعليمية بعيدة عن التأزيم ومبررات التطوير، والتذرُّع بأن الجسم التعليمي أصابه الاعتلال، وأن نتبصَّر في حقيقة ساطعة أن التعليم أصبح اكثر بعداً عن أهدافه الحقيقية في بناء جيل غير قابل للكسر والضياع.
على القائمين على الملف التعليمي تجاوز الصيغة السطحيّة في التبرير، وأن يخضع الفعل إلى قراءة حصيفة، ومتأنية وأدوات قياس منطقية لا قفز فيها عن الواقع الذي تعيشه بيئتنا التعليمية، وظروف المواطنين، فبالتفكير العقلاني والآمين مع النفس نقدم حلولا رشيدة، تحفظ للتعليم قيمته وتضعه في مكانه الصحيح، فأول الخطاب الرباني كان اقرأ.
أخيرا، هو الأمل أن تلتقي المفاعيل ذات العلاقة على موقف جامع لإصلاح البنية التربوية لما فيه خير الوطن وأجياله. فقد يجمع الله الشتيتين، وقد يظنان أن لا تلاقيا.