كيف يمكن إنهاء هيمنة عمالقة التكنولوجيا على العالم؟
تأسست شركة "ستاندرد أويل" (Standard Oil) في ولاية أوهايو الأميركية عام 1870 على يد رجل الأعمال الأميركي جون روكفلر، وخلال أقل من 10 أعوام فقط استطاعت الشركة أن تسيطر على نحو 90% من تجارة النفط في الولايات المتحدة الأميركية، فقد احتكرت وسيطرت بشكل شبه كامل على إنتاج النفط ومعالجته وتسويقه ونقله في كافة أرجاء أميركا.
وقد استمرت هيمنة هذه الشركة -التي تعد من أقدم الشركات متعددة الجنسيات في العالم- على سوق النفط الأميركي حتى عام 2011، بعد أن أصدرت المحكمة العليا الأميركية قرارا بتفكيكها إلى 34 شركة بسبب قضايا مكافحة الاحتكار (Antitrust) التي رفعتها الحكومة الأميركية ضدها، واستمرت لسنوات عديدة في أروقة المحاكم قبل البت النهائي فيها.
واليوم، نحن نعيش حالة مشابهة وإن كانت أكبر بكثير، حيث تسيطر شركات التكنولوجيا الكبرى في العالم على الاقتصاد الرقمي الدولي بشكل يكاد يكون مطلقا، وفي الوقت الذي ألقى فيه فيروس كورونا بظلاله الداكنة على الاقتصاد العالمي مدخلا إياه في ركود عميق، وحطم عددا كبيرا من المؤسسات والشركات في مختلف دول العالم فقد كانت هذه الجائحة المدمرة نفسها نعمة اقتصادية كبرى لشركات "آبل" (Apple) و"أمازون" (Amazon) و"فيسبوك" (Facebook) و"ألفابت" (Alphabet)، وهذه الشركات التي يطلق عليها اسم "الأربعة الكبار" لم تنج فقط من الجائحة، بل ازدهرت وحققت أرباحا خيالية بسببها، ولديها الآن عائدات سنوية تزيد على تريليون دولار، وتساوي قيمتها السوقية معا أكثر من 2.5 تريليون دولار.
الهجوم الكبير
لكن هذه الشركات العملاقة بدأت تتعرض مؤخرا لهجوم كبير من قبل الحكومات والحقوقيين والنواب في أميركا وأوروبا لأسباب عديدة، منها سوء استخدام البيانات واحتكار الأسواق وعمليات الاستحواذ أو القضاء على المنافسين، وتواجه هذه الشركات الأربع الآن تهديدات حقيقية لوجودها مع تقديم مشاريع قوانين جديدة لمكافحة الاحتكار، ورفع عدد كبير من الدعاوى القضائية ضدها في المحاكم، وتخشى أن يحدث لها ما حدث لستاندرد أويل في بدايات القرن الـ20.
وعلى سبيل المثال، رفعت لجنة التجارة الفدرالية و48 من المدعين العامين في أميركا في الخريف الماضي دعوى قضائية ضد شركة فيسبوك، متهمينها باحتكار وسائل التواصل الاجتماعي في أميركا، وبعد فترة وجيزة رفعت وزارة العدل الأميركية و11 من المدعين العامين دعوى أخرى ضد شركة غوغل بتهمة احتكار سوق الإعلانات الرقمية.
قوانين مكافحة الاحتكار في أميركا قوانين قديمة وتعداها الزمن وبحاجة إلى تجديد وتغيير جذري (رويترز)
قوانين قديمة
الكاتب والباحث الأميركي جيمس سورويكي كتب مقالا مطولا قبل أيام نشرته منصة "إم آي تي تكنولوجي ريفيو" (MIT Technology Review) يستعرض فيه تداعيات الحملة على عمالقة التكنولوجيا، واحتمالية تفكيك هذه الشركات وآثار ذلك على الاقتصاد الرقمي العالمي.
ويناقش الكاتب قوانين مكافحة الاحتكار في أميركا، مؤكدا أنها قوانين قديمة وتعداها الزمن وبحاجة إلى تجديد وتغيير جذري "مثلا لا يزال قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام 1890 وقانون كلايتون لعام 1914 القانونين السائدين حتى اليوم رغم تغير الزمن" ودخول البشرية عصرا جديدا هو العصر الرقمي.
وقد بدأ العلماء والسياسيون ورجال القانون في طرح هذه الأسئلة والترويج لفكرة جديدة لما يجب أن تكون عليه سياسة وقوانين مكافحة الاحتكار، خصوصا مع تزايد قوة ونفوذ الشركات الكبرى على كافة المجالات في الولايات المتحدة، فهي تملك نفوذا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا هائلا، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى إحداث أضرار جسيمة على النظام السياسي ككل في الولايات المتحدة، بل والعالم.
ويشير الكاتب إلى أن "السؤال الأكثر إلحاحا هو: كيف يمكن كبح جماح هؤلاء العمالقة الأربعة؟ الإجابة تعتمد على الشركة التي ستسعى خلفها، ذلك أن الخطأ الدارج هو أن دعاة مكافحة الاحتكار غالبا ما يجمعون الشركات الأربع في بوتقة واحدة باعتبارها "حراس البوابة" والمتحكمة بالاقتصاد الرقمي العالمي، وفي الواقع فإن هذه الشركات تمتلك أعمالا مختلفة، وهو ما يعني أن ما يصلح لمكافحة احتكار شركة منها قد لا يصلح لمكافحة احتكار شركة أخرى، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى ابتكار حلول جديدة ومتنوعة جدا لمكافحة الاحتكار".
ليس لدى آبل الكثير لتخسره
ويناقش الباحث وضع كل شركة من الشركات الأربع على حدة مبتدئا بشركة آبل، إذ يقول إن "شركة آبل هي الشركة الأكثر قيمة في العالم، وتبلغ قيمتها حتى كتابة هذه السطور أكثر من تريليوني دولار، وهي أيضا الشركة الأكثر ربحية، ومع ذلك وعندما يتعلق الأمر بمناقشة الاحتكار فإن آبل هي الشركة الأقل احتكارا بين العمالقة الأربعة، ويعود هذا إلى أنها أصبحت شركة عملاقة بجهودها الذاتية تقريبا، حيث قدمت 3 من أكثر المنتجات التكنولوجية نجاحا وربحا في التاريخ، كما أنها نجحت في إقناع عملائها بالاستمرار في شراء الجيل التالي من منتجاتها".
ويتابع الكاتب "إنها مصيدة فئران نجحت آبل في نصبها للمستهلكين، وليس عيبا أن تكون صيادا بارعا، ومع ذلك فقد قامت بالكثير من عمليات الاستحواذ في السابق، ومن المؤكد أن لديها مشكلات تتعلق بالاحتكار، فهي مثلا تجبر جميع المطورين الذين يبتكرون منتجات وتطبيقات لأجهزة آيفون وآيباد على أن يبيعوا هذه التطبيقات من خلال متجرها "آب ستور" (App Store) وتتقاضى رسوما تصل إلى 30% نتيجة لذلك، ومع قضايا مكافحة الاحتكار التي سترفع ضدها بعد إقرار القوانين الجديدة فإن آبل ستجد نفسها مضطرة في نهاية المطاف بالسماح للمطورين بالبيع مباشرة للمستهلكين، وهو مطلب عدد كبير منهم، بل قد تجد نفسها مضطرة لبيع هذه التطبيقات لأجهزتها من خلال متاجر مستقلة عن آب ستور".
ومع ذلك، فإن آبل ستبقى قادرة على استيفاء رسوم الترخيص من أي تطبيق يريد أن يكون على جهاز الآيفون التابع لها، لذلك، وعلى المدى الطويل، ليس لدى آبل الكثير لتقلق بشأنه.
وضع أمازون المعقد
ويوضح سورويكي أن وضع أمازون أكثر تعقيدا من وضع آبل، صحيح أنها نمت بفضل جهودها الذاتية مدفوعة برغبتها في تحقيق المزيد من المبيعات والاستثمارات الضخمة التي أجرتها في البنية التحتية، واستعدادها لدفع الكثير من الأموال للحفاظ على عملائها، وكسب عملاء جدد لكن أكبر مشكلة تواجهها في مجال مكافحة الاحتكار هي مشكلة خلقتها بنفسها وهي "سوق أمازون" (Amazon Marketplace).
وأشار إلى أن "سوق أمازون في ذلك الوقت كان يعتبر قرارا مجنونا للكثيرين: أن تسمح للشركات والبائعين الآخرين في منافسة منتجاتك والبيع على منصتك وفي سوقك مع حصول أمازون على جزء من العائدات نتيجة لذلك، لكن اتضح لاحقا أن هذه كانت حركة عبقرية، فالدخل الذي يحققه سوق أمازون الآن يمثل الجزء الأكبر من أرباح البيع بالتجزئة الذي تحققها الشركة، وهذا السوق هو أيضا المكان الذي تظهر فيها أمازون سطوتها على الآخرين، وهنا تكمن المشكلة".
ويتهم العديد من البائعين في السوق الشركة بالتلاعب في نتائج البحث لمكافأة البائعين الذين يستخدمون خدمات وأدوات أمازون بدلا من أدوات الشركات المنافسة التي تعمل في السوق، كما أنها تقوم بمكافأة الباعة الذين يعلنون في موقعها، وتعطي أولوية تفضيلية لمنتجات وعلامات أمازون التجارية على منتجات الشركات الأخرى، والتهمة الأكثر شهرة -كما يقول الكاتب- هي استخدام البيانات التي يتم جمعها في السوق لتحديد المنتجات الناجحة والأكثر مبيعا، ثم تقوم أمازون بتقليدها وصناعة ما يشبهها بهدف إخراج البائعين المنافسين من السوق.
ويبقى السؤال: هل أمازون شركة تحتكر تجارة التجزئة؟ هي تتحكم بلا أدنى شك في سوق أمازون، لهذا يطالب العديد من السياسيين ودعاة مكافحة الاحتكار بفصل السوق عن أمازون، وهو ما يعني تفكيك الشركة.
حالتا غوغل وفيسبوك في الاحتكار أشد وضوحا من غيرهما من الشركات (رويترز)
غوغل وفيسبوك.. هدفان سهلان
حالتا غوغل وفيسبوك في الاحتكار أشد وضوحا من غيرهما من الشركات، وحين تقرر الحكومة رفع دعاوى قضائية ضد الاحتكار فإن هاتين الشركتين هما الأسهل منالا، وينطبق عليهما التعريف التقليدي للاحتكار، حيث يتم إجراء أكثر من 90% من جميع عمليات البحث عبر الإنترنت في العالم من خلال غوغل، وفيسبوك وغوغل تسيطران معا على أكثر من 80% من سوق الإعلانات الرقمية عبر الشبكة.
وقد لعبت عمليات الاستحواذ الكبرى -وما زال لكلام لسورويكي- التي أجرتها غوغل على "دبل كليك" (DoubleClick) و"آي تي إيه" (ITA) دورا رئيسيا في دعم تطورها وترسيخ هيمنتها، وهي تواجه حاليا دعاوى قضائية في أوروبا بسبب التلاعب في نتائج البحث لوضع محرك التسوق الخاص بها في مرتبة أعلى من بقية الشركات المنافسة.
والأهم من ذلك أن غوغل تتحكم بالمصير الاقتصادي وعوائد مواقع الإنترنت المختلفة في جميع أنحاء العالم، وأي تغيير في محرك البحث التابع لها أو الخوارزميات التي تتحكم في اليوتيوب سيكلف الناس والشركات خسارة آلاف العملاء والمشاهدين، وفي ظل القوانين والتشريعات الجديدة لمكافحة الاحتكار فإن غوغل تعتبر هدفا سهلا.
ورغم ذلك فإن فيسبوك هدف أسهل بكثير من غوغل، وفي الحقيقة فإنه من المتوقع أن تصبح فيسبوك الشركة الأكثر معاناة من عواقب قوانين مكافحة الاحتكار الجديدة.
ويؤكد الباحث أن "فيسبوك تحصل على أكثر من 61% من زوار مواقع التواصل الاجتماعي في أميركا فقط، وقد اشتهرت الشركة العملاقة بقسوتها البالغة مع المنافسين، وتفننها بطرق القضاء عليهم، إما عن طريق تقليد منتجاتهم بحرفية عالية كما كان الحال مع "سناب شات" (Snapchat) و"تويتر" (Twitter)، أو من خلال الاستحواذ على المنافسين كما حدث مع شركتي "إنستغرام" (Instagram) و"واتساب" (WhatsApp)، وعمليات الاستحواذ التي تقضي على المنافسة هي بالضبط ما صممت لوائح وقوانين مكافحة الاحتكار لإيقافه، كما أن افتقادها للشفافية في الطريقة التي تستخدم بها بيانات العملاء أعطى فيسبوك سمعة سيئة للغاية".
تفكيك العمالقة
ويناقش سورويكي النتائج المتوقعة لحملة مكافحة الاحتكار، حيث يرى أن فيسبوك معرضة لخطر التفكيك والانهيار أكثر من غيرها، وقد يحدث معها نفس السيناريو الذي حصل مع ستاندرد أويل، خصوصا إذا ما تم فصل إنستغرام وواتساب عنها، وهو ما سيعطي حرية ومنافسة أكثر لوسائل التواصل الاجتماعي في العالم.
ومع ذلك، فليس من الواضح إن كان هذا سيؤثر على سيطرة فيسبوك على المستخدمين، بالنظر إلى كنز البيانات الهائل الذي يتحكمون فيه.
ومن الممكن فصل سوق أمازون عن الشركة، وهذا يعني تفكيكها إلى شركتين منفصلتين، أو وضع لوائح أكثر صرامة، مما سيحد من قدرة أمازون على التحكم بنتائج البحث ويضعف قدراتها التنافسية مع البائعين الآخرين في سوقها.
ويؤكد الكاتب أن احتكار آبل متجر آب ستور سينتهي، وقد يتم فصل "دبل كليك" و"آي تي إيه" عن غوغل، وهو ما يعني تفكيكها أيضا، كما سيتم وضع لوائح صارمة بشأن ما تفعله غوغل بقاعدة البيانات التي تملكها عن المستخدمين في كافة أنحاء العالم، وكذلك طريقة عمل تصنيف محرك البحث الخاص بها.
ولكن، هل يكفي التفكيك وحده لإنهاء هيمنة هذه الشركات على الاقتصاد الرقمي العالمي؟
لعل هذا هو أخطر سؤال يوجهه الكاتب في مقالته، ويجيب عنه بإسهاب "إذا كانت القوانين الجديدة تسعى لتغيير حقيقي في كيفية إدارة الاقتصاد الرقمي فلن يكون تفكيك الشركات الأربع الكبرى أو الحد من هيمنتها كافيا، ذلك لأن الميزة التنافسية الحقيقية لهذه الشركات ليست تجاوزاتها القانونية واحتكارها وقضاءها على المنافسين فقط، ميزتها الحقيقية هي وصولها القانوني تماما إلى كميات هائلة من البيانات التفصيلية والدقيقة عن المستخدمين في شتى أرجاء العالم".
ويضيف أن هذه البيانات تساعدها على فهم هؤلاء المستخدمين بشكل أفضل وإجراء تحسينات مستمرة على منتجاتهم وخدماتهم، وهو ما يساعدهم بدوره على الاحتفاظ بمستخدميهم وعملائهم الحاليين وإضافة عملاء جدد لهم بشكل دائم ومتواصل، وهو الأمر الذي يمنحهم القدرة على الوصول إلى بيانات ومعلومات أكثر، إنها مفتاح نموهم ومصدر قوتهم الحقيقي.
"إن تحدي قوة الأربعة الكبار حقا يعني إعادة التفكير في كيفية جمع البيانات وطريقة استخدامها من قبل هذه الشركات، وتحديد من يمكنه الوصول إليها، وهذا يعني المطالبة بمشاركة البيانات، وأن تكون الخوارزميات شفافة، وأن يتمتع المستهلكون بقدر أكبر من التحكم في ما يشاركونه وما لا يشاركونه من معلوماتهم الشخصية".
ولكي يحدث ذلك "سيتعين على المشرعين ودعاة مكافحة الاحتكار إثبات أنه من الخطأ أن تتحكم مجموعة صغيرة من الشركات بكل هذه البيانات، وطريقة استخدامها لمصلحتها فقط، عليهم إثبات أن "العملقة" لعنة، وأن العالم لا يحتاج لعمالقة يتحكمون بمصيره".
المصدر : مواقع إلكترونية