البكائيات العربية الثلاثة
وطنيون وصادقون ، هم احرار العرب الذين عزّ عليهم قبل الحرب العالمية الاولى ، تخلف أمتهم بين الأمم ، ثاروا على الدولة العثمانية ، لكن الإنجليز والفرنسين غدروا بهم، واستغلوا أشواقهم للتحرر ، مما أضطرهم للتحالف معهم ، من اجل الخلاص ، ليكتشفوا ان الخديعة كبيرة ، اقلها تقسيم الوطن العربي ووضعه تحت الانتداب.
لم يكتفوا بذلك ، بل أثاروا الفتن بين زعماء ذلك العهد ، وزودوهم بالمال والسلاح لإجهاض فكرة التحرر أصلا ، وتقاتل الاعراب في غير موقع على الزعامة والحكم ، وهم تفرغوا لاقتسام الغنائم ، حتى ان اليهود المنبوذين عندهم نالوا حصتهم .
كانوا يدركون ان هدف الثوار بناء الدولة القوية الكبرى ، بدل الخلافة العثمانية ، فعملوا مبكرًا على إجهاضها ، بل خذلوا قادتها ، وتوزع معضمهم بين منفي وسجين واعدام .
قَبِلَ القوم الانتداب على مضض ، ناور بعضهم ، وثار آخرون ، وبقيت الشعوب العربية بين مد الوصاية وجزر الحكام المغلوب على امرهم ، حتى وقعت الحرب الثانية ، وأصبح الجميع حكاما ومحكومين اضيع من الايتام على مأدبة اللئام ، بل بات بعضهم وقودا لتلك الحرب، وسنابك في خيل الاوصياء ، إن في شمال افريقيا او على حوض المتوسط ، وتكررت الخديعة مرة اخرى بوعدهم بالاستقلال بعد الحرب ، ولكنهم خرجوا لاحول لهم ولا قوة ، وجددت الأمم المتحدة اتفاقات الغرب مع العرب ، بصيغ توحي بأن بدر الامة قد لاح في الأفق. ولكنهم وللأسف استبدلوا المندوب السامي بالسفير ، بإعتبار ان الدبلوماسية أقل كلفة من الحرب.
حينها دخلت الولايات المتحدة حلبة المنطقة ، كوريث للاستعمار القديم ، ولكن بأيدٍ ناعمة بل بعضها مليء بالمال بحجة التنمية ، بعد ان قدمت لها لندن ثلاث وصايا إن ارادت ان تضمن مصالحها ومصالح الغرب عمومًا عند العرب والمسلمين ، أولها ان لاتقدم لهم ما يمكن ان يجمع بينهم ، وأن لا تقلل من شأن نفطهم ، وأن لا تستهين بقوة دينهم. وزادت عليها بالقول ، عليكم ونحن معكم أن تجعلوا من هذه الوصايا ، بكائيات عربية ينتحب فيها معظم سكان المنطقة ، بعد ان عثرتا على متبرعين منبوذون لدينا ، يبحثون عن وطن ينهي شتاتهم الطويل( اليهود) ،لا احد في القارة الاوروبية يطيقهم ، ونظن أنتم أيضا.
قامت اسرائيل وبدأت البكائية العربية الأولى ، ولكن طريق مصالح الغرب كان أطول من ذلك ، فالطموحات العربية القومية بقيت امراً مقلقا لهم ، ظل اوارها يشتعل ، بين أبناء الامة ، اقلق الغرب سرعة تشكيل الأحزاب العربية لتحقيق طموحات الآباء الأوائل ، الذين قادوا فكرة التحرر إبان الحرب العالمية الاولى.
عندها تكاتفت جهود فرنسا وبريطانيا لإجهاض هذا الحلم مبكرًا ، وضربت رأس الكفر بالنسبة لهم جمال عبد الناصر في حرب السويس ، وكانت المساهمة الاسرائيلية فيها عربون وفاء لهما ، ولمنح الثقة والدعم لها لحماية مصالحهم.
لم تكن واشنطن تنظر في حينها للمنطقة، من ذات الثقب الاستعماري القديم ، وأرادت ان تدخل وفق مبادئها ومصالحها هي، وبناء شراكة جديدة ، عمّدها ايزنهاور مع مؤسس ألدولة السعوديه على متن الباخرة الامريكيه في البحر الأحمر بعد الحرب العالمية الثانية. وأوهمت الجميع من أجل النفط بأنها دخلت علينا من مدخل صدق، عندما وقفت ضد فرنسا وبريطانيا في عدوانها على مصر وطالبتها بالرحيل.
هكذا تولت واشنطن ارث الاستعمار القديم في المنطقة ، ولم تهمل وصايا العرش البريطاني صاحب الخبرة العميقة في المنطقة ، وراقبت المشهد عبر أدواتها الدبلوماسية ، وتدخلت في لحظات الحسم لحماية مصالحها هنا وهناك ، رغم ان بعض تدخلها كان مكلفًا ، ولأن النفط كان غاليًا عليها ، فقد مالت لممالأة البعض، ولكن عندما الحق شاه إيران الاذى بمصالحها في الخليج ضحت به غير آسفة عليه .
تفاجأت واشنطن بما أسفرت عنه الثورة الاسلامية في طهران ، ولكنها تولت إدارتها هذه المرة عبر جارتها العراق ، حتى ادرك الطرفان انه لا جدوى من أستمرار الحرب ، تنفس كل الخليج الصعداء ، ولكن إلى حين ، فالمنتصر بالنسبة لواشنطن يجب ان لا يقبض الثمن ، عندها هيأوا الساحة لمقامرة دخول العراق للكويت ، لكي يخرج منها مذمومًا مدحورا ، ويخرج معها ألعرب كلهم مشتتين كمن تقطعت بهم السبل ، هنا بدأت البكائية العربية الثانية بعد ان شاع الشك وأنقطع حبل الود بين ألعرب ، هذا على أفتراض انه كان موجودًا أصلًا ، وخرجت اسرائيل منتصرة مرة اخرى.
كانت لعنة امة ، تلك التي أقترفها اتباع بن لادن في نيويورك ، لم يكن بين المختطفين عراقي واحد ، ومع ذلك دفع العراق الثمن ، فقد بدل اثم العراق في الكويت ادارة واشنطن لمصالحها من الدبلوماسية إلى القوة العسكرية ، وعاد الغرب الى فكرة تكسير الروؤس ، ودخلت قواتها غازية هذه المرة ، واحتلت بغداد ، تماما كما كان يفعل زعماء القارة الاوروبية في القرن الماضي.
ضاقت الشعوب العربية ذرعا من واقعهم ، وامتلأت نفوسهم بالغضب ، وجاء الربيع العربي وجاءت معه البكائية العربية الثالثة ، لكن سرعان مادخل الغرب عليه ، وجعلوا منه خريفًا حافلا بالدم، لكي لا بتكرر الحلم العربي مرة اخرى ، ولو بعباءة إسلامية هذه المرة ، رغم مااسبغوا عليه من مديح، مثل شرعية الحصول على الحرية والديموقراطية وحماية حقوق الانسان. طبعًا هذه الثلاثية لايريدونها لنا سيدي القاريء ، هم فعلوا ذلك لأنهم يدركون ان ضمان مصالحهم سيكون أصعب منالا لو نالت الشعوب العربية الديمقراطية التي يتشدق بها الغرب . نحن امة كتب علينا البكاء على خيباتنا ، منذ البكاء التاريخي الكبير على أحفاد نبينا عليه السلام في العراق ، الذي لا زلنا ندفع ثمنه حتى اليوم.
المشكلة ان لا احد يعلم متى ستقع البكائية الرابعة في وقت تنهمك فيه إسرائيل لاقناع الجميع بأن الولايات الابراهيمية المتحدة هي الصيغة الوحيدة للوقوف امام إيران ، شريطة ان تكون بقيادتها، سيناريو قد يبدو بعيد المنال ، ولكنه ان حدث على وقع الظلم والفقر والقهر في العالم العربي ، فلن تجد التأييد له من الرئيس ترمب وأتباعه فحسب ، وإنما من جميع رؤساء إمريكا اللاحقين. وللتذكير فقط فمن أستطاع ان يبني بين الوعد والنكبة دولة نووية في اقل من أربعة عقود ، قادر على تحقيق هذا الحلم في ظل انقسام مذهبي أكل الأخضر واليابس.