التواطؤ بين السلطات الذي يقود لاستمرار قاعدة جبرية الطاعة العمياء



كتب الفقيه الدستوري، أ. د. محمد الحموري - 

كنت قد اكتفيت بما أوردته في كتبي وبحوثي عن المتطلبات الدستورية والقانونية لإصلاح سياسي حقيقي، وتناولت مضامين النصوص تأصيلاً وتفصيلاً، إضافة الى اقتراحات بالتعديل أو الحذف المطلوب، وتقديم الصياغات اللازمة للنصوص الدستورية البديلة. لكني الآن أجد نفسي مضطراً الى قول كلمة إضافية ضرورية في هذه المرحلة تتعلق بالجانب الشكلي والإجرائي الذي يجعل الإصلاح المنشود متكاملاً، ويمكن ان تكون الكلمة مفيدة للقانوني وغير القانوني.

وبعبارات وجيزة هنا أقول مجتهداً، إن الإصلاح السياسي في محصلته يتكون من مجموعة من النصوص الدستورية والقانونية التي يتم تشريعها للحلول مكان نصوص أصبحت معيقة او عاجزة عن الوفاء بالمتطلبات السياسية التي تحتاجها ادارة الدولة وخدمة المجتمع. ولتحقيق هذه النتيجة، فإن ذلك يتطلب بالضرورة ما يلي:

1. أن يتم تحديد النصوص الدستورية والقانونية المعنية ابتداءً بهدف وضع بديل لها، وتوفير هذا المتطلب يحتاج الى أهل اختصاص حقيقي ودربة، ومعرفة جيدة بالصلة بين نصوص الموضوع الواحد.

2. أن يتولى صياغة النصوص الجديدة أصحاب تأهيل وخبرة في موضوع الصياغات ومراعاة الربط بين نصوص الموضوعات عند الحاجة وتجنب الحشو والتكرار الذي ألحقته بعض التعديلات غير الناضجة التي شوهت الدستور.

3. ضرورة توفير إرادة سياسية مستمرة راغبة في الإصلاح السياسي الحقيقي، والتنبه الى أهمية عدم التجريد الواقعي للنصوص من مضامينها الحقيقية، وتجنب التأثير على فاعليتها من خلال التفسيرات التي تعطى للنصوص حسب رغبة الحكومات، والأخذ بعين الإعتبار أن كل واحد من النصوص يشكل حجر زاوية في توازن نظامنا السياسي. ومثال على ما نقول حال المادة (16) من الدستور التي تؤكد فقرتها الثانية على حق الأردنيين في تأليف الأحزاب السياسية، بشرط استيفاء ثلاثة شروط واضحة الصياغة والمدلول، بأن غايتها المحافظة على كيان الدولة ونظامها السياسي، فإن اختل أي واحد منها يفقد الحزب الأساس الدستوري لوجوده، ويجوز المطالبة بحل الحزب وإبطال تسجيله استناداً الى مخالفة الدستور. لكن من يمارسون على الناس سلطة شخصية واقعية بموجب تفسيرات شاذة للنصوص، اعتدوا بشراسة على هذا الحق، عندما دخلوا على الجانب الشكلي والإجرائي الذي وضعت فيه الفقرة (3) من المادة (16) من الدستور، مواصفات القانون الذي يصدر بشأن الأحزاب، وحددت مضمونه بأنه "طريقة تأليف الأحزاب ومراقبة مواردها" فحسب. أي مضمون إجرائي وغاية إجرائية لا تؤثر على أصل الحق كما هو الحال عند مخالفة الفقرة (2) سابقة الذكر في تأثيرها على أصول الحق. لكن التفسيرات التسحيجية الشاذة التي وصفتها الوزارة المعنية رغبت بأن تفهم أن الشروط التي تضمنتها النصوص القانونية الإجرائية تعتبر دستورية وتطبق كدستورية، وهذه المحصلة التي تشكل جهلاً وأمية معرفية بالقانون والدستور معاً، ينبغي أن يظل إثمها كخطيئة وليس مجرد خطأ شاهداً على انحراف من قارفها، ولا يجوز أن تشكل ايذاءً لأحزاب ومسار شعب يسعى لتغيير نهج الحكم في دولته، ومن ثم الإسراع الى القضاء للفوز بغنيمة النجاح في حل أحد الأحزاب، وطلب بطلانه استناداً الى قانون غير دستوري البتة. ومحصلة هذه المخالفة الدستورية هي ممارسة الوزارة المعنية منع النمو الفعلي للأحزاب بقوة السلطة، حتى لا يصل أي منها الى الأغلبية التي تتيح لها المطالبة بتشكيل الحكومة، وبالتالي تكون الوزارة قد خالفت نص الدستور، وحرمت الأردنيين من الدخول الى حقبة الديمقراطية الحقة وممارسة الحرية الدستورية، كما ينبغي أن تكون، وفرض مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية.

ولننظر على سبيل المثال أيضاً الى نص المادة (33/2) من الدستور التي أدى شذوذ وانحراف المفسّر المعتمد الى تجريد مجلس النواب من اختصاصه الأصيل المتعلق بمساس أو عدم مساس المعاهدات والاتفاقيات بمال الخزينة أو بحقوق الأردنيين، من أجل تقرير نفاذها أو عدمه، لتكون المحصلة بعد ذلك اغتصاب الحكومات صلاحيات المجلس الذي يفترض أنه صاحب الولاية الدستورية في تجسيد إرادة الشعب وفق المادتين (24و25) من الدستور. وقد استتبع هذا النهج السلطوي الشاذ تمكين الحكومات ومن يوجهها بالخفاء، من اغتصاب سلطة مجلس الأمة لتمرير اتفاقيات ومعاهدات بعينها بموجب تفسيرات غائية للنصوص الدستورية، فأصبح هناك في الدستور نصوص حُجر على مضمونها رغم بقائها مسطورة في وثائق الدولة، وهي الآن بأمس الحاجة الى إحياء وتحرير من التفسيرات الغائية المفروضة عليها، وذلك لتقوم بوظيفتها المكملة لما تؤدي اليه النصوص التي لم تطالها يد العبث.

4. إن على المصلحين المؤهلين الذين سوف يتولون ما سبق، أن يتنبّهوا الى الخلل الذي أحدثته بعض الطواقم التي سبق أن أوكل إليها إجراء التعديلات الدستورية المتلاحقة منذ عام 1953، دون التنبّه أو إقامة اي اعتبار لما تُحدثه صياغة هذه التعديلات من آثار سلبية على النصوص التي بقيت على حالها. ولذلك فان الامر يحتاج الى من يدرك ان التعارض والتناقض بين النصوص من هذا النوع في دستورنا، يشكل عيباً يندى له الجبين، ومن العار ان يستمر الحال كما هو عندنا. وهنا أجد لزاماً عليّ ان أشير الى ما يلي:

أ‌. كنت أتمنى لو أن ظرفي الصحي يمكنني من الإطالة والتفصيل في جميع المسائل الشكلية والإجرائية، لكن دخولي على الثمانينات من العمر، واضطراري للإقامة الطويلة في المستشفى، يحول دون ذلك، مما يجعلني أكتفي بإضافة مثال واحدٍ أخير الى ما سبق، مما يشكل إساءة بالغة الى دستورنا، عندما نعلم أن التعارض والتناقض بين المادة (30) من الدستور والفقرة الثانية التي أضيفت الى المادة الدستورية (40) عام 2016، أن ذلك يسيء الى دولتنا ودستورنا. وأتذكر هنا أنني نشرت دراسة عام 2016 خاطبت فيها الحكومة ومجلس الأعيان ومجلس النواب منبهاً الى أنه إن تمت المصادقة على التعديلات المقترحة، فإن ذلك سوف يهدم توازن نظامنا الدستوري، وتفرغ مبدأ الشعب مصدر السلطة من مضمونه، وتلغي مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية، وحينها أضفت بالقول، إن هذه التعديلات تطلق رصاصة الرحمة على دستور عام (52) ليموت واقعياً، ثم بعد ذلك نقول يرحمك الله يا زينة الدساتير.

ب‌. إنني كمواطن أردني عايش الظروف التي مرّ بها وطننا على مدى الستة عقود الماضية، أشعر بضيق شديد، كلما أسمع تبريرات تسحيجية لما وصل إليه حالنا، من حيث أن عدم وصولنا الى الديمقراطية والملكية الدستورية، سببه عدم نمو الأحزاب، وعدم وصول أي منها الى تشكيل أغلبية!! ولست أدري كيف أن هؤلاء القوم يتجاهلون أنه منذ عام 1957 حتى عام 1992، أي على مدى (35) سنة كان منع وجود الأحزاب السياسية مفروضاً بموجب نص قانوني عقابي يجرّم الإنتماء الحزبي. وعندما أُلغي النص التجريمي عام 1992، أصبح المنعُ سياسياً تفرضه إرادة الأمني وإيحاءاته على من يلبس ثوب السياسي، وبعدها يكون على الأردنيين السكوت جبراً وتصديق زيف مثل تلك الأعذار التي تستهين بالعقل وتستبيح كرامة الإنسان!!

ج‌. إنني وفاءً لوطن نعشقه، وانتماءً لأجيال مخلصة أحبها من أبنائه، أثق بأنها سوف تحاكم مستقبلاً جيل اليوم، ومن ثم فقد أعددت بحثاً باللغة الإنجليزية حول الخلل الذي أحدثته التعديلات الدستورية التي أجريت بإسم الإصلاح السياسي على دستورنا منذ عام 2011 حتى عام 2016، وتم نشره في الفصل السادس من كتاب أثق بأن أجيال أبنائنا سوف تفيد منه وتبني عليه، دون أن يطاله العبث، وهو كتاب أصدرته جامعة أكسفورد بتاريخ 22/8/2016 عنوانه (Oxford Constitutions of The World)، وجاء الفصل الذي تضمن دراستي تحت عنوان: (New Guardians of the Constitutions- Constitutional Reform and the Rise of the Constitutional Adjudication in Jordan (Mohammad Hammouri)) وقد سبق أن أوردت العديد من المسائل المنشورة في كتاب اكسفورد ضمن مقالاتي وبحوثي المنشورة في الأردن.

د‌. وأخيراً أقول، إن مشكلتنا في هذا الوطن الغالي تكمن في نهج إدارة الدولة، وتوظيف تشريع النصوص الدستورية والقانونية لخدمة هذا النهج، مما قاد الى أن يحلّ مبدأ التواطؤ بين السلطات مكان مبدأ الفصل المرن بين السلطات، ليستمر حكم قاعدة جبرية الطاعة السياسية، وانتشار الشكوى من الفساد كما هو حال العديد من دول عالمنا العربي، رغم أن قاعدة جبرية الطاعة هذه ذات أصل ومضمون وثني، وتحررت منها شعوب أوروبا منذ أكثر من 250 سنة.