ضانا على خطى معان والأغوار والديسي؛ ثمار التنمية لكم وأثمانها علينا
على مدى الأسبوعين الماضيين، كان اسم بلدة ضانا الجنوبية التي اشتهرت منذ عقود بوجود محمية طبيعية فيها، هو الأكثر تردادا في المجال الأردني العام، كما كان الأكثر إثارة للاستقطاب بين النخب الأردنية، بعد أن قررت الحكومة الأردنية تخصيص جزء من أراضي المحمية، سيسمح فيه بالتعدين واستخراج معدن النحاس، الذي تقول الحكومة؛ إن الدراسات تثبت جدوى استخراجه وتعدينه، ليكون مادة للتصدير للأسواق الدولية ما يجلب الكثير من الأموال الصعبة التي تحتاجها البلاد.
في الحديث عن القرار الحكومي، بدت لافتة كل تلك التفاصيل كما الطقوس التي تتعلق بمشاريع كبرى مماثلة أو مشابهة تحت عنوان "مشاريع استثمارية". فالقرار حول ضانا، وبالرغم من أهميته على الصعيد الوطني كما على صعيد المجتمع المحلي في بلدة ضانا وفي محافظة الطفيلة عموما، لما له من تبعات مباشرة على حياتها على الصعد البيئية والاقتصادية والتنموية والصحية، فقد غاب عنه أهل ضانا، كما غيب عنه مجتمع الطفيلة الأوسع.
وكما في كل "مشروع استثماري" سابق هناك دائما هذا العقل البيروقراطي التكنوقراطي المركزي الذي يقبع في عمان، فهو الذي يقرر متى وأين وكيف ومن ولمن ولماذا. سبق لهذا العقل البيروقرطي التكنوقراطي المركزي أن قرر الاستثمار في الديسي، فقرر استخراج مياهها الجوفية، وتأجير اراضيها لعشرات السنين، وبما يعطي الحق لبضعة أشخاص لا يزيد عددهم عن عدد أصابع اليد، كي يستهلكوا من مياه الديسي ما يصل إلى عشر ما يستهلكه الأردنيون جميعا من المياه سنويا. كما سبق لهذه الماكنة البيروقراطية التكنوقراطية المركزية أن قررت ذات النمط من "المشاريع الاستثمارية" على شاطئ العقبة وفي صحراء معان وفي غيرها من البلدات والمدن الأردنية
في كل تلك "المشاريع الاستثمارية" الكبرى التي قيل لنا أنها مشاريع ستجلب الكثير من الثمار التنموية للوطن الأردني الكبير كما للمجتمعات المحلية التي تحتضن هذه المشاريع وتدفع ثمن هذه المشاريع من صحتها ومن بيئتها ومن جودة الهواء الذي تتنفسه، كان الحصاد مرا ومرا جدا. ف "مشاريع الاستثمار" في العقبة، كانت إحدى نتائجها الوطنية التي ترقى لمستوى الكارثة هو تقلص مساحات الشواطئ التي تعتبر عمومية، لتصبح ملكا لأفراد بعينهم هم حتما من خارج سكان المنطقة، وليحرم الأردنيون من الاستفادة منها. واستحضر هنا، نموذجا مناقضا في التنمية وفي سياسات التحضر الذي يتعلق بالشواطئ. فدولة مثل فرنسا تملك ما يزيد على 1600 كم من الشواطئ، مقابل عشرات الكيلومترات في الأردن، ولكن السياسات والقوانين الحضرية في فرنسا تنجح وفي كل عام في زيادة مساحات الشواطئ العمومية وتقليص تلك التي يمتلكها أفراد.
وأما مشاريع الاستثمار في الديسي فقد كانت أثمانها وطنية وعلى مستوى الوطن له، كما كانت محلية انعكست على سكان المنطقة نفسها، حيث دفع الأردنيون من رصيدهم المائي ثمن هذه المشاريع، وحيث أراد البعض أن "يحول الصحراء إلى جنان خضراء" على حساب مخزون مائي محدود تشكل على مدى ملايين السنين ولا يمكن تعويضه. أما ثمار هذه المشاريع فلم ير لا الأردنيون ولا سكان بلدة الديسي ثمارها، ويكفي أن تقوم بزيارة ميدانية لهذه المنطقة العزيزة من بلادنا كي ترى حجم البؤس والفقر والحرمان. فمشروع الديسي أنتج ثروة وغنى في جيوب البعض في عمان، ولكنه لم ينتج تنمية ورخاء في مجتمع الديسي نفسها، كما ساهم "المشروع التنموي" في خسارة إستراتيجية وطنية هي المياه التي يحتاجها الأردنيون أمس الحاجة.
وفي العودة للحديث عن مشروع الاستثمار في ضانا وتدمير نظامها الايكولوجي والبيئي، لا يمكن لي إلا الحديث عن العقل البيروقروطي التكنوقراطي المركزي القابع في عمان، والذي يحتكر سلطة التفكير والمبادرة والتخطيط والتنفيذ والتقييم وكتابة التقارير حول كل ما يجري خارج عمان وفي الأطراف، والذي بات وبسبب تركيبة السلطة والية اتخاذ القرار في البلاد، لا يعمل وفق آليات بيروقراطية وتكنوقراطية بحتة، بل بات في كثير من الأحيان هو مجرد واجهة سلطوية وإعلامية، بعد أن يتلقى وبالتلفون الأوامر والتعليمات من الجهات المحددة ومن مراكز النفوذ السياسي والمالي التي تملك هي ناصية التفكير واتخاذ القرار وتحتكره في حين بات الوزراء والذي أجزم أن كثيرا منهم يتسمون بالكفاءة والنزاهة والوطنية، لم يعودوا يملكوا ناصية القرار.
وفي الحديث عن ثمار الاستثمار الحقيقية التي تذهب لجيوب القلة لتضاف في أرصدتهم داخل البلاد وغالبا خارجها، استحضر عدد الهجمات التي يتعرض لها ناقل مياه الديسي الذي يزود عمان بالمياه. إذ لا يمر أسبوع دون أن نقرأ في الأخبار عملا تخريبيا أو اعتداء كبيرا على خط مياه الديسي الذي يجلب مياه الديسي لتمر مجرد مرور في بلدات وقرى، وليصب في أحياء عمان فقط. فالخط الذي ينقل خيرات الديسي المائية يمر بعشرات المدن والقرى التي لا تصلها المياه إلا مرة في الأسبوع أو الأسبوعين ما يخنق الحياة في هذه المناطق عطشا، يصب الخط في أحياء عمان ليتنعم سكانها بوفرة نسبية بالمياه على مدى أيام الأسبوع في حين يتلظى مئات آلاف السكان في البلدات والقرى التي يمر بها بحر الصيف دون أن يتنعموا ولو بجزء يسير من هذه المياه المتدفقة إلى أحياء عمان.
فمن خطط لمشروع ناقل الديسي، فكر في كل الجوانب التقنية والبيراقراطية والمالية واللوجستية، ولكنه لم يفكر قط في مشاعر الناس والمجتمعات المحلية التي ستخرج منها المياه لتذهب لمكان آخر، كما لم يفكر في ردة فعل القرى والبلدات التي تمر منها عشرات ملايين المترات المكعبة من المياه لتذهب لعمان في حين يعاني هو العطش والسقم.
وفي العودة للحديث عن ضانا وعن تلك التنمية والاستثمار التي عرفناها في بلادنا الحبيبة، وأمام كل التفاصيل التي عشناها في مشاريع مشابهة وحيث محصلة كل المشاريع التي يقررها هذا العقل البيروقراطي التكنوقراطي والمركزي، والتي كانت مديونية وطنية تتجاوز الاربعين مليارا من الدولارات، وبطالة تتصاعد كل يوم، وفسادا متماديا، وخرابا مؤسساتيا عميما, فإن مخرجات "المشروع الاستثماري" القادم في ضانا باتت معلومة سلفا.
ففي مشهدية المشروع القادم لضانا، أرى خرابا بيئيا وايكولوجيا كبيرا، وحيث سيفقد الأردنيون نظاما ايكولوجيا تشكل على مدى ملايين السنين تحت يافطة التنمية والاستثمار، كما سيفقد سكان المنطقة بعضا من مصادر رزقهم التي باتت تعتمد على وجود هذه العناصر النباتية والحيوانية التي تطورت وفق النظام الايكولوجي في المنطقة. كما سأرى مردودا اقتصاديا هائلا سيذهب إلى المركز في عمان، يذهب في معظمه إلى جيوب البعض وليس إلى الخزينة العامة الحزينة. وأرى في الأفق القريب مشروع قانون يقضي بانشاء "هيئة مستقلة أو مفوضية" ستكون خارج سلطة مجلس النواب الرقابية ويكون راتب المدير فيها، يعادل كل رواتب أبناء بلدة ضانا الذين ستشملهم "خيرات الاستثمار" وسيجري تعيينهم كمراسلين وعمال نظافة في مباني تلك الشركات والمصانع التي سيتم بناءها في ضانا. وفي المحصلة، فان ضانا ونظامها الايكولوجي التي كانت ملكا وثروة وطنية للأردنيين وللمجتمع المحلي، ستكون ملكا لمجموعة خفية من الأردنيين سيكونون هم المستفيدون من خيرات ضانا وخيرات أرضها.