الاقتصاد الأردني .. غايات مخنوقة ورؤى مسروقة
تمر الدولة الأردنية منذ بداية تأسيسها وحتى اللحظة بتحديات متواصلة ومتصلة ومستجدة جعلت من تنفيذ أية خطة تنموية شيئا من الصعوبة التي تكاد تصل إلى المستحيل نتيجة عوامل داخلية وجانبية وخارجية.
في كل ذلك كان السعي الحثيث للموائمة بين مفهوم الدولة الراعية والدولة الجبائية فيما تلاشى مفهوم الدولة التنموية الحقيقي.
تتحدث كافة الأدبيات التنظيرية أنه لا يمكن محاربة البطالة وإيجاد فرص العمل إلا بتوافر نمو اقتصادي حقيقي وإقامة مشاريع كبرى ومتوسطة من أجل خلق فرص عمل جديدة تستوعب الأعداد المتزايدة من الخريجين الذين ما أن تطأ أقدامهم أرض سوق العمل حتى يجدوا أنفسهم غير مرحب بهم ولا مكان لهم فيه.
وتتحدث ذات الأدبيات أنه من أجل تشجيع إقامة المشاريع الكبرى والصغرى، واستقطاب رؤوس الأموال، فلا بد من توفير البيئة الحاضنة والمحفزة والداعمة لإنشاء تلك المشاريع الاستثمارية، وأنه كي يبادر أصحاب رؤوس الأموال بفتح مشاريع لهم، فهم يبحثون عن أمور ثلاث تتضمن : ضمان الاستقرار المالي في الدولة، ضمان حرية وانسيابية حركة التجارة وتبادل السلع سواء تصديرا أو استيرادا، ضمان البيئة الاجتماعية المرحبة والمستقبلة لإقامة المشروع، ضمان وجود هامش من الحوافز الكافية من أجل المنافسة المكافئة للسلع أو الخدمات المشابهة لما تنتجه الشركات المحلية والعالمية. أي أن المطلوب توفير الأسباب الكافية التي تجعل المستثمر لا يتردد في إقامة المشاريع في هذه الدولة أو تلك.
لقد واصلت الدولة ممارسة فكرتي الرعاية والجباية بحيث أصبحت سمة واضحة في كافة الإجراءات والتدابير التي تمارسها في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وهذا أدى إلى أعباء وتحديات أثقلت كاهل الدولة بحيث أصبح القرار الأول كل صباح على مائدة أصحاب القرار يتمثل في كيفية زيادة الجباية سواء ضريبيا أو على شكل رسوم أو منح أو اقتراض، والتي تذهب في غالبيتها كنفقات ومصاريف ورواتب دون أن نرى أدنى أثر لها في مجالات التنمية الاقتصادية الفعلية.
واستمر الحال هكذا فكان أن زادت خدمة الدين العام، وزادت الضرائب بصور فاحشة أحيانا، ولم تزد بالمقابل الاستثمارات والنمو الاقتصادي بما يقلل من نسبة العاطلين عن العمل والذي يعتبر تحديا رئيسا يواجهه المجتمع في تكدس الشباب الخريجين المتعطلين عن العمل وعن الأمل.
ومع زيادة الاقتراض الداخلي والخارجي ، ومع زيادة الضرائب على كل السلع والخدمات التي يتعامل معها المواطنين، فقد زاد العجز المالي، وزادت أعداد ونسب البطالة، ولم تزد المشاريع وفرص العمل.
القضية ليست مجرد أرصدة بنكية يراد تحريرها.. هل لدينا موارد حقيقية يمكن من خلالها قيام صناعة منافسة ذات جودة عالية .. هل لدينا بيئة اجتماعية حاضنة للمشاريع .. هل لدينا شفافية وحوكمة لكافة قرارات واجراءات الجهات المعنية .. هل يمكن فتح المشاريع حسب الأولوية مع مراعاة التنمية الاجتماعية .. هل لدينا ما نقدمه للمستثمرين فعلا ..
نتحدث وننظر كثيرا مبتعدين عن تلمس الواقع ومعطياته من أجل البناء عليه واستشراف المستقبل.. لنقر ابتداء أننا في دولة رعاية وجباية .. وهذا النمط من الدول قد ينجح مع التي تمتلك موارد وفوائض مالية وأرصدة واحتياطات بحيث ينطبق المثل القائل .. اللي رأس ماله الفلوس هين .. لكن في حالتنا فنحن ينطبق علينا مقولة أننا نريد عيشة دبي فيما الواقع بائس متشظي كالصومال.. الدولة لا تريد صراحة الإعلان عن عجزها القيام بدور الرعاية فكيف بالتنمية .. دولة تقوم على الجباية والمنح والجمارك والضرائب وتنفقها رواتب ومصاريف مستهلكة .. فيما يتغول شبح العاطلين عن العمل وتكدس الخريجين ذوي الجودة المتدنية.. وكل ما تعمل الدولة عليه نوع من ملاحقة الأزمات أو النيران في محاولات غير مجدية لإطفائها.. إن الدولة في معظم تشريعاتها تحمل الصفة والصبغة العرفية الجبائية.. ولا أدري كيف سيتم تشجيع الاستثمار وسط بيئة تحمل الذهنية العرفية والهواجس التقليدية ناهيك عن الضغوط والاعتبارات المجتمعية المتعددة الأهواء والأمزجة والرغبات.
إن الدول القوية تعطي الأولوية للاقتصاد ومن ثم للسياسة، لكن الدول التابعة أو الضعيفة لا تستطيع تحديد أيا من الأولويات في ظل تبعيتها الاقتصادية يصبح القرار السياسي مرتهنا ومحجورا عليه بما ينسجم مع رغبات الجهات أو الدول المانحة المانعة.
فتهرب تلك الدول إلى التذرع بالأولويات السياسية لأنها لا تستطيع تحديد أية أولوية اقتصادية بشكل مستقل وذاتي.
وسط كل هذا، يبرز ما يدعى بالفساد المالي والإداري، والذي يتغذى كالطفيليات على وهن الدولة وعدم وضوح الرؤى. ومع التناقض في التشريعات الناظمة للمجتمع وخاصة ما يتعلق منها بالعمل والتعليم والحريات الأساسية والحقوق والواجبات، ومع تدني مستويات المساءلة وتدني الشفافية وانعدام الحوكمة المؤسسية والإدارية. تبدو الصورة باهتة بلا ملامح وبلا أطر، وهي عبارة عن تجميع وحشر ألوان وجهود ونشاطات في لوحة واحدة. لا غاية تجمعها ولا هدف يوحدها.
يبدو أن معضلة الاقتصاد أعقد وأخطر من أن تترك للاقتصاديين لوحدهم.. نحن بحاجة إلى حياة سياسية حقيقية بتشريعات داعمة وإصلاح إداري وحوكمة كافة الإجراءات ومصداقية في المساءلة وفي محاربة الفاسدين وفي إشاعة مناخات الديمقراطية والعدالة في توزيع الموارد. الدعم الحقيقي لإقامة المشاريع واستقطاب الاستثمارات المجدية .
عدا ذلك، فلن تنتج المحاولات العشوائية الجزئية أي مردود له أثر ملموس في الحياة اليومية للمواطن.
majedalkhawaja3@gmail.com
* الكاتب مستشار التدريب والتعليم المهني