في الأردن.. يريدون إعلاما لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم
في الوقت الذي تستعد اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية في الأردن لإعلان ما أنجزته في إصلاح وتطوير قانوني الانتخاب والأحزاب، والتعديلات الدستورية، والتصورات الضرورية لتمكين المرأة والشباب، فاجأت الحكومة وسائل الإعلام والناشطين على منصات التواصل الاجتماعي بأنظمة تفرض قيودا على حرية التعبير والإعلام والإنترنت.
ورغم أن الحكومة تراجعت خطوة للوراء، وأعلنت تعليق هذه الأنظمة، وقررت رفعها عن موقع ديوان الرأي والتشريع بعد تعرضها لانتقادات شديدة من الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني، إلا أن السؤال الأبرز: كيف تريد أن تمضي الدولة الأردنية في إصلاح سياسي، وتُشكل لجان لهذه الغاية وفي الوقت نفسه تضيق ذرعا بحرية التعبير، وتريد إعلاق فضاء الإنترنت بقيود غير مسبوقة في أي دولة في العالم؟
هيئة الإعلام، التي يرأسها محامٍ عُرف في السنوات الماضية بخروجه في بث مباشر "لايف" على الإنترنت، وينتقد بشدة الحكومات، قدم للحكومة مقترحا بتعديل ثلاثة أنظمة أبرز ما فيها، ضرورة ترخيص بث البرامج الإذاعية والتلفزيونية على الإنترنت، ومضاعفة رسم الترخيص السنوي للمواقع الإلكترونية.
في المبررات التي تسوقها الحكومة، ومن خلفها هيئة الإعلام لتقديم هذه الأنظمة أن هناك انفلاتا في الإعلام، وكذلك أن السوشيل ميديا أصبح مُنافسا للإذاعات والتلفزة دون ترخيص، ودون تكبد ما تدفعه التلفزيونات والإذاعات المرخصة من رسوم مالية، بالإضافة إلى الحديث عن غياب المحتوى الأصيل عن معظم المواقع الإلكترونية، وهناك من يُجاهر بالقول إن في الأردن ما يُقارب 150 موقعا إلكترونيا فما الحاجة والضرورة لها، ويجب تقنينها لتصبح أقل من عشرة مواقع.
يُدرك الإعلاميون قبل غيرهم في الأردن أن وسائل الإعلام تمر بأزمة صعبة منذ سنوات، ولهذه الأزمة عناوين مختلف، منها ما يرتبط بالتحولات المجتمعية، وهجر الصحافة المكتوبة إلى منصات التواصل الاجتماعي، وما سببه هذا من تراجع في الاهتمام والمقروئية، والإيرادات المالية، ويترافق ذلك مع تراجع في المهنية، والالتزام بمدونات السلوك.
هذه الأزمة ليست نتاج اليوم، بل هي تراكمات لسنوات توقفت فيها وسائل الإعلام عن التطور ومواكبة التغيرات، والحقيقة التي لا تخفى على أحد أن الحكومات المتعاقبة، وأجهزتها الأمنية كانت تدعم هذا الإعلام، وتريد أن تُبقيه تحت وصايتها وجناحها، ولم تكن يوما مهتمة بصناعة إعلام مهني، وما كان يُهمها دائما أن يُصفق لها ويمدحها، ولا يقترب من نقدها.
في قصة "أنظمة الإعلام" التي قدمتها هيئة الإعلام دون سابق إنذار، لا يجوز للحكومة أن تبيع شعارات الحرص على مهنية الإعلام، فكل ما يهمها هو السيطرة عليه، وإحكام قبضتها على أي وسيلة اتصال خارج منظومتها مهما كانت، وهذا الكلام ليس اتهاما جُزافيا، ويكفي للدلالة على ذلك العودة لعام 1997، حين أقرت الحكومة قانون المطبوعات والنشر المؤقت، وتسببت في إغلاق 13 صحيفة أسبوعية، كانت الصوت المعارض والناقد للحكومة، وبعد أشهر من الصراع أصدرت المحكمة (العدل العليا) قرارا بعدم دستورية القانون، وعادت الصحف الأسبوعية مرة أخرى للصدور، ولكن الحكومة لم تستسلم، وظلت وراءها حتى استأصلتها بطرق متعددة، أهمها تجفيف منابع المال عنها.
ولم تتوقف محاولات الحكومة في توظيف التشريع كأداة تقييد لوسائل الإعلام، ففي عام 2012، قدمت تعديلا على قانون المطبوعات والنشر اشترطت فيه ترخيص المواقع الإلكترونية، في سابقة لم تحدث في العالم، كانت نتيجته إغلاق أكثر من 200 موقع إلكتروني، عاد بعضها بعد الترخيص، والإجبار على الالتزام بالمتطلبات القانونية.
ما يمكن استنتاجه بوضوح أن الحكومة في العقود الماضية ظلت تلاحق وسائل الإعلام لتمنع أي أفق لعملها باستقلالية، وكلما وجدت نافذة للحرية أغلقتها، والشاهد قانون الجرائم الإلكترونية الذي أجاز توقيف وحبس الصحفيين والصحفيات، ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إذا ما اتهموا بجرائم قدح وذم.
استخدام التشريع المظهر الأبرز للتضييق على وسائل الإعلام، لكن الحكومة لم تضع سياسات داعمة للصحافة، وفي الممارسات كانت الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون والصحفيات تمر دون مساءلة، ويُفلت مرتكبوها من العقاب.
حين قدمت هيئة الإعلام الأنظمة المُعدلة، شعر الصحفيون أن تمريرها مهما كانت الذرائع بداية لحملة جديدة تستهدف وجودهم، والعنوان الأبرز هذه المرة رغبة الحكومة بالعصف بحرية التعبير على الإنترنت، وخاصة منصات التواصل الاجتماعي بعد أن أصبحت ملاذا لفضح سياسات وممارسات الحكومة بعد أن كُممت وسائل الإعلام، وخضعت لرقابة مسبقة، وذاتية.
تداعى الصحفيون للاجتماع في نقابة الصحفيين، وطالبوا الحكومة بسحب الأنظمة المقترحة قبل اللجوء لإجراءات تصعيدية، وبدأ مستخدمو السوشيل ميديا بالانتباه لخطورة تعديل "نظام رخص البث وإعادة البث الإذاعي والتلفزيوني"، ويكشفون أن الهدف من وراء تمريره توفير المظلة القانونية لملاحقة كل من يظهر على السوشيل ميديا ناقدا، بعدما كثر معارضو الداخل والخارج، وارتفع منسوب النقد، وحتى الاتهام للنظام والدولة.
المركز الوطني لحقوق الإنسان لم يغب عن مسرح الأحداث، فأصدر بيانا اعتبر أن الأنظمة تتضمن مخالفات للمعايير الدولية لحقوق الإنسان المتعلقة بحرية التعبير والإنترنت، أبرزها التوسع في تعريف البث على الإنترنت، مُذكرا أن التعديلات لا يجوز أن تمس جوهر الحقوق والحريات التي حصّنها الدستور.
مركز حماية وحرية الصحفيين كان أول المبادرين للتصدي للتعديلات المقترحة، ونبه إلى أنها تخالف الدستور والقانون، وأنها تُثير المخاوف، ولا يمكن أن تُسهم في تعزيز المهنية، أو الحد من الإشاعات، أو الإساءة للسمعة، مُبينا أنها تؤثر على تعددية وسائل الإعلام وتنوعها، وتحد من فضاء الإنترنت واستخداماته.
معركة "أنظمة الإعلام" لم تضع أوزارها حتى الآن، فالحكومة قد تُجمد بحثها الآن، وقد تفتح حوارا مع الوسط الصحفي حولها، ومربط الفرس أن عقلية لا تؤمن بحرية الإعلام والتعبير هي المسيطرة على عقل الدولة، وما يُقال عن ترسيخ نهج ديمقراطي، وأحزاب حرة، وحكومات مُنتخبة يسقط في أول الاختبارات.
كثيرة هي المقترحات التي يمكن أن تُسهم في تطوير الإعلام إذا ما صدقت النوايا، وأول الخطوات المطلوبة استقلالية الإعلام، وعدم التعامل معه باعتباره ملفا أمنيا، وبعدها يمكن تأسيس صندوق مستقل لدعم وسائل الإعلام باعتبار تنوع وتعدد وسائل الإعلام يضمن حق المجتمع في المعرفة والرقابة، وثالثهما إنشاء مجلس شكاوى مستقل، يستقبل شكاوى الجمهور ليُنصف المجتمع من أخطاء وتجاوزات الصحافة.
سمعت الحكومة هذه المقترحات مرارا، وتجاهلتها، وكما يُقال "إذن من طين وإذن من عجين"، فهذا لا يتوافق مع أجندتها لوسائل الإعلام، فهي تريد إعلاما لا يرى، ولا يسمع، ولا يتكلم، وما تفعله في الصحافة تتمنى اليوم قبل الغد أن تقدر على تنفيذه في السوشيل ميديا، فإن أكثر ما تكرهه كل الحكومات تأمل أن يختفي من الوجود هي منصات "فيسبوك" و "تويتر"، وكل وسيلة تُتيح للإنسان أن يُعبر عن رأيه بحرية دون الخضوع للمُخبرين والمفتشين.
الحرة