فصام وسيرك الحياة الحزبية في الأردن
نعيش في الأردن منذ عقود ما يشبه المجاملات السياسية أو الفصام السياسي، فنحن منذ عام 1992 مع إقرار قانون الأحزاب السياسية لم نزل في حوار كأنه حوار الطرشان، حوار يكون الكل فيه يتكلم، والكل فيه لا يسمع.
ما زلنا حتى كتابة هذه الكلمات لم نتفق على مفهوم الهوية الوطنية الجامعة، ما زلنا لم نتفق على من يحق لهم الجنسية وما يترتب عنها من حقوق وواجبات، لم نتفق على كيفية محاربة الوطن البديل إن كان بدعم الهوية الفلسطينية أم بالإنغماس التام في الهوية الأردنية، وهل هما هويتان أم هوية واحدة، لم نتفق على معنى التوازن الديمغرافي في المواقع العامة والنيابية. لم نتفق على هل حزب جبهة العمل الإسلامي المرخص هو الواجهة لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة أم للجماعة التي أستنبتت من خصر الأصلية لكنها الموافق عليها أمنيا.
لم نتفق على أن المخيمات لها خصوصيتها الوطنية باعتبارها تمثل عنوان اللجوء والعودة إلى فلسطين، أم أنها مكون اجتماعي له كافة الحقوق التي يحصل عليها أي مكون اجتماعي آخر في الدولة.
إن المتابع للمشهد السياسي الأردني يجد نفسه في غمار إشكالية حقيقية من عدم المقدرة على التفسير أو التحليل للمشهد.
في القراءة المتأنية للمشهد الحزبي الأردني، فهي منذ ولادة أول الأحزاب كانت قاصرة عاجزة مسالمة مسايرة، ربما ليس عن عجز مقيم فيها، بقدر ما تطلبته عملية الولادة لها. فالقانون حدد المسارات وتشعباتها بصورة جعلت من أي حزب مرخص هو حزب حكومي مدجن يأتمر بإمرة موظف لجنة الأحزاب في وزارة الداخلية ومن ثم في وزارة التنمية السياسية.
مع ذلك فقد توالدت الأحزاب السياسية بشكل كبير وفي زمن قصير نتيجة البدايات الأبوية لها، حيث كان المال حاضرا بيد صاحب الحزب المحظي بالنفوذ والسلطة والسند الاجتماعي والمكانة والملاءة المالية ، بما يكفي لتأسيس حزب وصل أعداد المنضوين تحت لواء بعضها عشرات الآلاف خاصة من الشباب المتعطل عن العمل والباحث عن واسطة وفرصة عمل.
وطبيعي أن من ينفق هو من يقرر ويحكم، فأصبحت المرحلة مرحلة حزب الشخص الواحد أو ما يطلق عليه one man show ، فيما كل من يسمون بالهيئة العامة للحزب ليسوا إلا كومبارس وهتيفة وسحيجة خلف صاحب / قائد أمين عام الحزب.
وتلت تلك المرحلة بعد أن تبين للمنضوين إلى الأحزاب أنهم لم يستفيدوا بشكل شخصي من الحزب ، مرحلة التحالفات والاندماج والكمون الحزبي. وكان الأثر واضحا تماما على أكبر حزبين حظيا بأعداد كبيرة من العضوية وهما حزب العهد الذي أنشأه المرحوم عبد الهادي المجالي، وحزب اليقظة الذي أنشأه عبد الرؤوف الروابدة. وكلا الشخصين اعتمدا على السلطة التي امتلكا زمامها في سبيل بناء حزبيهما ضمن سياق الحزب الوسطي البرامجي وهي كلمة سادت لفترة طويلة في الحياة الحزبية والغاية منها الحد من وجود الحزب الأيديولوجي كالحزب الشيوعي أو الإسلامي وما شابه ذلك.
وانسجاما مع قانون الأحزاب السياسية، فقد قامت التنظيمات الثورية التي هدفها الاشتباك الدائم مع العدو الصهيوني بهدف تحرير فلسطين، والبوصلة الوحيدة لها كان التحريض الإيجابي للجماهير لتبني نظرية التحرير. لكن التحولات السياسية أوجدت مساحة ومجالا وحاضنة مرخصة لهذه التنظيمات، فأنشأت أحزابا تحت إشراف وزارة الداخلية ومن ثم التنمية السياسية، ولم تكن تلك الأحزاب الهجينة بين الثوري والسياسي قادرة على أن تلعب كلا الدورين بذات القدر والأولوية، مما أوقعها في دهاليز العمل الإداري المكتبي أو التقصير فيه لحساب العمل النضالي الأساسي.
وظهر تشتت اليسار واضحا بعد أن تغيرت الأولويات والاهتمامات إلى الاستحواذ على المناصب والمواقع الحزبية التي أصبحت نوعا من المسميات الوظيفية والمكانة الاعتبارية وليست مواقع نضالية.
هكذا انهارت صورة العمل الحزبي بشكل متدرج لكنه كان مؤكدا نتيجة تلك الاعتبارات السابقة، فلم يعد للتنظيمات النضالية وقعها وتأثيرها وشعبيتها، كما أن الاتجاه الإسلامي أصبح تحت الرؤية والعلانية وباتت مساءلته قانونية، ومع تفصيل قانون الانتخاب في كل دورة انتخابية، كان الإخوان المسلمين يتأرجحون صعودا أو هبوطا بمقعد أو أكثر، لكن مع تعاقب الدورات فقد بهت الأداء للحركة الإسلامية وخفتت أصواتهم نتيجة تقلص عدد مقاعدهم، فيما تبخر الحضور لما تدعى بأحزاب الوسط بعد أن تخلى أصحابها القائمين على نشأتها عن دعمها وتمويلها.
يتبع في الحلقة القادمة.