محادثة "المدام" التلفونية إذ تطيح بأعتى استراتيجياتنا الجامعية
إذا كان لنا نصف وبدقة روح هذا العصر الذي نعيش فيه وبما يميزه عما سبقه من عصور، فلن نتردد بالقول أنه عصر "المؤسسة" والبنى المؤسسية أو ما يسميه عالم الاجتماع الألماني الكبير بعصر "سلطة المكاتب". فمجتمعاتنا باتت تدار بالكامل من قبل هؤلاء الجالسين في مكاتب. وهو يقصد هنا المؤسسات وحيث يجد فيبر أن لفظة "البيروقراطية" هي أفضل تعبير ووصف لتلك القاطرة التي تقود المجتمعات المعاصرة نحو الحداثة والتحديث. فلفظة Bureau في اللغة الفرنسية تعني مكتب، وأما لفظة Cracy في اللغة الاغريقية فتعني سلطة، وأما السلطة فتعني قدرة طرف على التأثير في انتاج السلوكيات وتعديلها وتحفيزها.
وعلى النقيض من كارل ماركس الذي اعتبر أن حركة التاريخ؛ ما هي إلا نتاج للتناقضات والصراعات الطبقية، يرى ماكس فيبر أن التاريخ الحديث هو نتاج لنمو العقل البيروقراطي وتنامي سلطة شاغلي المواقع البيروقراطية الذي يمتلكون معارف وعلوما تقنية فيديرون كل مناحي الحياة داخل المجتمعات، فينقلون المجتمع من حال إلى حال. ف"البيروقراطية" التي يسيء معظمنا كنه معناها ويحملها معان سلبية، تعني تلك "السلطة" العقلانية "المؤسسية" أي تلك القدرة على التأثير في إنتاج السلوكيات وتشكيلها، التي يستطيع من يجلسون في المكاتب القيام بها، بحكم موقعهم وبحكم تراتبية مواقعهم داخل المؤسسة. "البيروقراطية" تعني وتشير إلى تلك السلطة التي يمارسها من يجلسون في مكاتب ويرتدون ربطات عنق بيضاء أنيقة، كما تعني سلطتهم العقلانية المؤسسية على إنتاج السلوكيات والممارسات وتعديلها وتشكيلها داخل المؤسسة وداخل المجتمع.
فالتراتبية والتباينات والتفاوتات في حجم من يشغلون المواقع داخل التنظيم البيروقراطي، هي في صلب التنظيم البيروقراطي العقلاني وحيث يستطيع كل واحد منهم بحكم موقعه أن ينتج السلوكيات العقلانية المناطة به والمحددة له. والتراتبية والتفاوتات والتباينات هي في صلب عقلانية التنظيم، وهدفها أن تفرز تراتبية فيمن يستطيعون تشكيل السلوكيات والممارسات داخل المؤسسة كي تحقق المؤسسة المنتج المطلوب منها، والأهداف العقلانية التي حددها المجتمع وحددتها الجماعة.
في جامعتنا، التي يفترض أنها جزء من هذه البنية البيروقراطية العقلانية، كما في بقية مؤسسات الدولة، نظمنا وما زلنا ننظم عشرات بل مئات الورش والمؤتمرات لتطوير التعليم ولتطوير بنى التعليم المؤسسية. ومئات بل آلاف الأفكار حملها من ذهبوا لأفضل الجامعات العالمية كمبعوثين من جامعاتهم وبلدانهم، كي يعودوا وهم يحملون معارف وعلوما متقدمة. المئات من أفضل شبابنا وكهولنا سافروا، واغتربوا، وعادوا بأفكار عظيمة وثمينة عن أفضل الممارسات في مجال التعليم وتطوير "مؤسسة" التعليم الجامعي و"مؤسساته".
والحال، فإن الورش والمؤتمرات وجلسات العصف الذهني في عمان وإربد وفي فنادق البحر الميت مستلهمة أجواء دافوس السويسرية وطقوسها وحداثيتها لتطوير التعليم العالي، ولحل أزماته ومعضلاته كان من ضمن مخرجاتها تطوير التراتبيات والهرميات المؤسسية داخل الجامعات. عمل خبراء وأكاديميون وصناع قرار على مدى عشرات السنين لتطوير التراتبيات البيرقراطية العقلانية داخل النظام الجامعي الأردني، فكانت الرؤية أن تكون هناك تراتبية إدارية تبدأ من رئيس قسم لتتطور إلى نائب عميد فعميد فنائب رئيس، فرئيس جامعة. والحال، أن هذه التراتبية الإدارية تستند إلى تراتبية أخرى أكاديمية وحيث بذل جهد يقدر بعشرات الاف ساعات العمل بذلته أفضل العقول الأكاديمية من أجل تطوير هذه التراتبية الاكاديمية. فكان أن توصلت الى تراتبية وهرمية تقوم على رتبة محاضر فأستاذ مساعد، فأستاذ مشارك وصولا إلى أعلى الرتب الأكاديمية أي أستاذ.
في العقل الانثروبولوجي، فإن هذه التراتبيات هي جهد مشكور وعظيم قامت وتقوم به هذه النخب، فهي تقوم بتطوير هرميات وتراتبيات مؤسساتية عقلانية حداثية في المجتمع الاردني كي تستبدل تلك الهرميات التقليدية من عشائرية أو حتى كاريزماتية عاطفية وغير عقلانية. فالتراتبية التي تشتمل على رتبة استاذ تفترض شخصا يمتلك من المعارف والمهارات والخبرات ما يزيد عن تلك التي يمتلكها من تحصل على رتبة أستاذ مشارك. وعليه، فنظام الترقيات في الجامعات الاردنية، يقدم خدمة جليلة للمجتمع والدولة الأردنية، لانه يستبدل سلطة أو سلطات تقليدية تتمثل في سلطة شيخ العشيرة أو زعيم الحارة أو زعيم الشلة والعصبة او رجل السياسة أو الأمن المتفلت من انتماءه المؤسساتي، بسلطة أخرى عقلانية وحداثية تتمثل في تلك التراتبية الأكاديمية في الجامعات. وبدلا من أن يحكم المجتمع ويدار من قبل ممارسو السلطة باشكالها التقليدية من عشائرية وطائفية وسياسية، يعمل نظام الترقيات الاكاديمية الجامعي على خلق وتثبيت وتطوير تراتبية أخرى حداثية لمن يمارسون السلطة ويشكلون بالتالي سلوكيات المجتمع وممارساته.
وعلى مدى عشرات السنين من عمر النظام الجامعي الأردني تم إنتاج هذه الهرميات الحداثية التي تصنف العاملين في الجامعات وفق مستوى خبراتهم ومعارفهم ومهاراتهم، فتجد تنضيدا على مستوى الجامعة يشتمل على هذه الرتب، وبما يفرز هذه التراتبية الهرمية الحداثية. كما تجد هذه التراتبية موجودة على الأرض داخل كل كلية بعينها في الجامعة.
ففي داخل كل كلية في جامعتنا، هناك تراتبية اشتملت على جهد من آلاف بل من عشرات آلاف ساعات العمل أمضاها العاملون في الكلية في الدراسة والتحصيل العلمي في المدرسة كما في الجامعة كما في سنوات الابتعاث ولاحقا في البحث العلمي والنشر في أفضل المجلات العالمية، وبما يمكن كل واحد فيهم من الوصول إلى الرتبة الأكاديمية وبالتالي الموقع الإداري المتناسب مع مؤهلاته التقنية والعلمية وخبراته الادارية. وهي كلها تستكمل جهدا قام به مئات من خيرة الخبراء وصناع القرار الأردنيين كي يفرزوا العناصر الاكثر كفاءة وكي يفرزوا تراتبيتها، وجدارة كل واحد منهم في الموقع الإداري المناسب الذي تشتمل عليه المؤسسة أي الجامعة.
وفي مقابل منطق يقول أن المؤسسة ينبغي أن تترك لدينامياتها الداخلية، وأن حركية المؤسسة يجب أن يترك لقدرة تلك القوى وفق هذه التراتبية على الحركة، وان المؤسسة ينبغي أن تفرز قياداتها وفق هذه الحراك البيروقراطي التقني العلمي الذي استغرق عشرات السنين، تأتي تلك المكالمة التلفونية القبيحة والمدمرة من خارج المؤسسة لتعبث بكل هذه القواعد، ولتطيح بكل هذه التراتبيات الأكاديمية. فموقع العميد، كما موقع نائب العميد، كما موقع مدير المركز، كما موقع الرئيس نفسه لم يعد يخضع لهذه التراتبيات ولا إلى أيقاعها وحركيتها الذاتية، بل باتت مكالمة تلفونية تأتي دائما من خارج السياق والمنطق لترسم الايقاع داخل المؤسسة ولتعبث بكل ما بناه المنطق وبناه عقل الدولة.
في الواقع الذي تعيشه معظم الجامعات، فقد تمت الإطاحة بالمؤسسات وبجهدها وبجهد كل تلك الجيوش من الخبراء وصناع القرار، وتتم هذه الإطاحة غالبا بمكالمة تلفونية تأتي من خارج أسوار الجامعة، ويكون طرفها متنفذ سياسي أو شيخ عشيرة أو مقاول مالي أو مسئول أمني حالي أو سابق أساء استخدام اسم مؤسسته، وتبلغ المأساة ذروتها حينما تكون المدام أو "الحماة" أو "الكنة" هي من تولت أمر تلك المكالمة التلفونية. وما ينتج يكون بالفعل بحجم مأساة وطنية كبرى؛ فقد نشأت الجامعة ونظام الترقيات فيها كي تنتج هرميات وصناع قرار وسلطة حداثيين ينقلون المجتمع إلى الحداثة، فتأتى المكالمة التلفونية من تلك الزعامات التقليدية لتعيد إنتاج المجتمع التقليدي بكل ذلك الفقر الاقتصادي والمعرفي والأخلاقي الذي عرفناه فيه وما زلنا نعاني منه.
وهنا تكون العودة إلى المربع الأول، فقد أنشانا الجامعات لتنقلنا إلى الحداثة ولتخلصنا من سلطة شيخ العشيرة والحارة والطائفة والزعيم السياسي الفاسد، ولكن واقع الحال بات يقول لنا أن من يقود الجامعات ويديرونها بات هؤلاء، هم من يأتون ويجيئون بهم. ولتصبح المفارقة هنا، انه وبدلا من أن تغير الجامعة وتطيح برموز السلطة والمجتمع التقليديين، فإن هؤلاء الرموز هم من يغيرون الجامعة ويشكلونها، ويصنعون منتجاتها.
أجزم أن ذلك الدفق القبيح من المحادثات التلفونية اليومية، هو من بات يصنع كل التراتبيات القبيحة في مؤسساتنا والتي تشبه تراتبيات عصور ما قبل التاريخ وعصور الظلام، ولم تعد صناعة القرار فيما يفترض أنه "مؤسسة" يخضع لقرار عقل الدولة البارد، ولقراءة باردة ومتعمقة لسيرة المؤسسة وحاجاتها، وللسيرة الذاتية للشخوص المحتملين لشغل مختلف صناعة القرار داخل تراتبية المؤسسة. في عالم الجامعات الحزين اليوم، باتت المكالمة التلفونية القادمة من خارج أسوار الجامعة تستبدل القراءة المؤسسية المعمقة للسير الذاتية المفصلة.
ملاحظة: لا علاقة ولا صلة من قريب أو بعيد بين ما احتوت عليه المقالة من محتوى، وحقيقة عملي منذ سنين طويلة في جامعة اليرموك الحبيبة.