وعي جيل... مستقبل وطن ونهضة أمة
طلبت إلى طلبتي في نهاية إحدى محاضراتي الأولى في مادة (الكتابة الوظيفية)، أن يكتبوا فقرة موجزة يصفون فيها مشاعرهم تجاه عودتهم إلى التعليم الوجاهي بعد طول انقطاع عنه؛ وقد أردت من ذلك اختبار مُكْنتهم، وأساليبهم، ومهاراتهم في التعبير، وكذلك الوقوف على أخطائهم الإملائية والنحوية، تمهيدًا لوضع خطة علاجية مناسبة في ضوء احتياجاتهم ومواطن ضعفهم، أطبّقها معهم خلال الفصل الدراسي؛ لكنّ ما قرأته في إجاباتهم صرفني عن مقصدي إلى أمر آخر أدهشني!!.
لقد أجمع الطلبة في نصوصهم التي كتبوها على إبداء السعادة والرضا بعودتهم إلى التعليم الوجاهي، وبحماسهم الكبير للدوام في الحرم الجامعي، ولعودة الحياة إلى روتينها الطبيعي الذي طالما كانوا وكنّا نتذمر منه، وعزَوا ذلك إلى تلك الحالة الحيوية التي أدركوا أنهم يعيشونها خلال الدوام الوجاهي داخل الحرم الجامعي، منتظمين في أوقات نومهم ويقظتهم، وملتزمين بأوقات محاضراتهم ودراستهم، بل حتى بأوقات تناول طعامهم، وأماكن ممارسة أعمالهم الحياتية المختلفة، والطقوس المصاحبة لذلك كلّه، وكأنّني بهم قد تلمّسوا في أفكارهم التي عبروا عنها سنة الله في كونه، حين جعل الليل لباسًا والنهار معاشًا، ونظّم حياتنا على وفق ميزان وقتيّ دقيق، يُبنى عليه أن كلًّا منا سيسأل يوم القيامة عما أفنى فيه عمره؛ الأمر الذي يقتضي أن نغتنم شبابنا قبل هرمنا، وصحتنا قبل سقمنا، وفراغنا قبل شغلنا، بل وحياتنا قبل موتنا.
واللافت في الأمر أن الطلبة أنفسهم أقرّوا بما يقرّه كثيرون غيرهم حول التسهيلات التي قدّمها لهم التعليم عن بعد بعامة وفي مراحله كافة، من حيث القدرة على التفلّت من المسؤوليات المباشرة، وامتلاك الوضعيّات المريحة من نواحٍ عديدة أثناء أخذ المحاضرات، بل الفسحة في أوقات حضورها اعتمادًا على تسجيلاتها، والقدرة كذلك على الاستعانة بالخبراء أو الأصدقاء في مواقف مختلفة، والإفادة من التعليمات الحكوميّة الرسميّة التي حاولت ضبط العملية التعليمية وقتئذ فيما يتعلق بآليات عقد الامتحانات، واحتساب العلامات، وغير ذلك الكثير الذي يجعلنا نتوقّع أن يصوّت الطلبة جميعهم للتعليم عن بُعد، رغم إقرار عدد منهم بمعاناتهم من إشكاليات التكنولوجيا الحديثة المعرقِلة في أحايين كثيرة، لكن وعي طلبتنا وسعة إدراكهم سرّني وأسعدني؛ إذ إنني ألفيتهم بالمقابل يدركون الأدوار الحقيقية لمعلميهم في ساحات العلم، وهم يصحبونهم إلى بطون الكتب، ومظانّ المعرفة، ويصاحبونهم بأخلاقهم وبتوجيهاتهم، وبأدوارهم التربوية والنفسية، يقولون بأعينهم وبلغة أجسادهم أحيانًا ما يعجز عن توصيله اللسان عبر الشاشات أو السماعات، يربّتون بقلوبهم الحانية على أكتاف محتاجي الدعم والتشجيع منهم، ويكتشفون أصحاب المواهب من بينهم، ويحفزونهم على الريادة والإبداع، يشاركون طلبتهم أفراحهم وأحزانهم، ويرسمون معهم ملامح مستقبلهم المشرق بريشة فنان بارع، مؤدّين رسالة عظيمة تنوء عن حملها الشاشات، وتعجز عن نقلها السماعات.
نعم، لقد فاتنا في خضمّ ما حدث ويحدث أن نطرح هذا الأمر المهم مع أصحاب الشأن أنفسهم، محور العملية التعليمية، طلبتنا في الجامعات، وكذلك طلبتنا في المدارس، وقد شعروا وشعرنا بعد أن خاضوا الامتحان الشهري الأول بفجوة ترتبت على التعليم عن بعد خلال العامين الماضيين، لن يملأها أي فاقد تعليميّ، ومع ذلك تجدنا نعيش في كل يوم نقاشًا عقيمًا لموضوع العودة إلى التعليم عن بعد، أو الإبقاء عليه وجاهيًّا، يسعد أصحابه بإبقاء النفوس قلقة، والقلوب حائرة، والأفكار متخبطة، وفي سياق ذلك سعى الخبراء والمعنيّون وما زالوا إلى رسم خطط للتعليم المدمج، أو الإلكتروني الكامل المتزامن وغير المتزامن، إلى جانب التعليم الوجاهي، حتى صارت جداولنا الدراسية وجداول طلبتنا تائهة بين هذه الأشكال المختلفة، والمصطلحات التي تكاد تكون مضلّلة، مع أن الأمر محسوم على يد جيل واعٍ يعرف ما يريد، ويستطيع أن يحدد مطلبه، يسعى للتواصل الحقيقي مع الآخرين، روحًا وفكرًا وجسدًا، يحب الانعتاق ويكره القيود، جيل قادة الفكر، وصانعي المستقبل الطيب المنشود بإذن الله، القائلين فيما قالوا حين كتبوا ما طلبت: "عدنا والعود أحمد"، و" عاد التعليم وجاهيّا وعادت معه الحياة"، و" شعوري تجاه التعليم الوجاهي أستطيع وصفه بالراحة النفسية"، و" أدام الله علينا الأمن والأمان ليستمر التعليم وجاهيًّا".
أخيرا وليس آخرًا أضم صوتي إلى صوت ابنتي ذات الثماني سنوات، وهي تقول حين تسمع التصريحات التي تلوّح بالعودة إلى التعليم الكامل عن بعد: "يكفينا الشر"، أما أنتم طلبتي الأعزاء فوافر التحية والتقدير لوعيكم، ولإنصاتكم إلى صوت عقولكم لا ضجيج قلوبكم، وأنتم تمثلون لجيل واعٍ نعوّل عليه بناء المستقبل الواعد لوطننا الحبيب، ولأمتنا العزيزة بأبنائها أينما حلّوا وارتحلوا.