تبرعات حسن اسميك وحرب الجيل الخامس
يميل الخبراء إلى تقسيم الحروب إلى أجيال، وذلك وفقا للتشكيل والتكتيك القتاليين ونوع الأدوات والأسلحة المتاحة لهذه الجيوش، لكن ما يشد الانتباه حقًا هو أن الجيل الخامس من الحروب يحتوي على بعدٍ مرتبطٍ باستهداف العقل للخصم لدفعه لخيارات محددة. هذا النوع من الحروب يستهدف أيضا النيل من هوية الدولة وأصالتها المتجذرة في عمق التاريخ. وعلى نحو لافت، يتعرض الأردن في السنوات الأخيرة إلى حرب جديدة من الجيل الخامس التي لا يستخدم بها السلاح بل تجري بموجبها محاولة لغسل دماغ جماعي للشعب للتأثير على خياراته المستقبلية ودفعه إلى الموافقة على مشاريع لن تفض في نهاية المطاف إلا إلى تحويل الأردن إلى وطن بديل تحت عبارات براقة حداثية في مظهرها ورجعية في جوهرها.
في الأخبار، أن حسن اسميك قام بتبرع لمساعدة طلبة من جامعة اليرموك لاستخراج شهادتهم المحجوزة من قبل الجامعة التي ترفض منح الشهادات قبل قيام الطالب بتسديد المبالغ المالية المستحقة. لو كان هذا التبرع عملا إنسانيا غير مرتبط بأية أجندات جدلية لرحبنا بالأمر وشكرنا الرجل على ما يقوم به من مساهمات مالية في مجتمع تتخلى الدولة فيه عن واجباتها الأساسية في التعليم والصحة. لكن للرجل اجندات سياسية معلنة، فقد كتب قبل فترة وجيزة مقالا في مجلة الفورين بوليسي يطالب به بقيام الأردن بضم الضفة الغربية وقطاع غزة، وبذلك يتنكر لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم في دولة مستقلة ناضلوا مئة عام للحصول عليها ولم يفلحوا بعد. وكشفنا حينها، أنه لا يوجد شريك إسرائيلي يمكن أن يقبل بهذا العرض إلا إذا كان المطلوب هو التخلص من السكان الفلسطينيين وتحويلهم إلى مواطنين أردنيين توطئة لطردهم شرق النهر. وفي تغريده له على تويتر طالب حسن اسميك أيضا بتحويل اسم الأردن ليكون المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة الفلسطينية الهاشمية، والخيار الأخير هو نفسه الذي تبناه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسباق اسحق شامير في مقال نشره في عام 1988 في مجلة الفورين أفيرز، وهو أيضا الخيار الأردني الذي رفض الملك حسين رحمه الله مجرد مناقشته.
بمعنى آخر، يفكر حسن اسميك -شأنه في ذلك شأن أتباع له في الأردن- أنه يمكن إعادة تركيب الأردن بهوية جديدة لم نعهدها وكأنه قطع ليغو. والأخطر أن حسن اسميك دعم مرشحين للبرلمان ويترأس جمعية قلقيلية، بمعنى أنه ناشط سياسي ويقوم بتمويل هذا النشاط. لذلك، تجاوزت المسألة بتقديري فكرة الوطن البديل، وهناك من يفكر بإحداث تغييرات كبيرة في الأردن توطئة للحكم البديل. وأي ترجمة لمقولاته التي جاءت في مقاله تعني الحكم البديل وليس فقط الوطن البديل.
وإذا كان هذا التحليل صحيحا، وأحسبه كذلك، فحسن اسميك يحاول هنا التسلل إلى المجتمع الأردني تحت ستار العمل الانساني لإيجاد موطئ قدم، ولا يجد أفضل من استخدام المال لاستغلال احتياجات الناس التي تفاقمت بفعل السياسات العامة. وعلى الرغم من الوعي السياسي الشعبي العام إلا أن المال قد يفعل فعله ويسمح لشخصية جدلية مثل حسن اسميك من تكوين قاعدة له. اللوم هنا على الدولة والمقاربات الرسمية التي حاولت منذ فترة ليست قصير قطع الحبل السريّ بين النظام الناس ما يجعل كثير من الأردنيين يرى الخلاص بعلاقة زبائنية مع هذا الشخص أو تلك المؤسسة الخاصة، وهنا يتحول المجتمع إلى جماعات غير متماسكة، وربما هذا ما يُخطط له.
المدهش في الأمر أنه وعلى الرغم من معرفة حسن اسميك بالرفض الشعبي العارم له إلا أنه يفهم أنه ما دام هناك من المؤسسات من يقبل تبرعاته فهناك أمل في أن تُنضج أحد أدوات حرب الجيل الخامس وضعا داخليا مربكا ومعقدا يسهل على الأعداء النيل من الأردن وإعادة تشكيله بالشكل الذي يناسب مخططاتهم. هناك من له موقف إيجابي من تبرعات حسن اسميك، ويأخذون على المشككين بحسن اسميك أنه يتبرع في حين منتقديه لا يقومون بذلك، وبتقديري هذا أخطر ما في الأمر، طبعا ليس المطلوب من الناس التبرع لأنهم ربما لا يملكون إلا ما يسد احتياجاتهم اليومية نظرا لنسب التضخم غير المسبوقة وتآكل القوة الشرائية للدينار وتراجع مداخيل الأفراد.
الطلاب المحجوزة شهاداتهم هم من الفقراء الذين تخلت عنهم الدولة، فهل يمكن القاء اللوم عليهم لقبولهم استخراج شهاداتهم حتى يتمكنوا من البدء في رحلة الألف ميل لإيجاد وظيفة! شخصيا، لو كنت رئيس الجامعة التي قبلت التبرع لرفضت، وما كنت سأقبل أن أكون جزءا -ومن دون وعي- من حرب الجيل الخامس التي تشن ضد الأردن. ألم يكن من الممكن منح الشهادات مقابل كتابة تعهد بسداد المبالغ المتبقية بأقساط ميسرة عندما يحصل الخريج على وظيفة؟ ألم يكن بالإمكان أن تقوم الحكومة بتسديد هذه المبالغ البسيطة جدا نيابة عن الطلاب؟ ألم يكن بالإمكان اقتطاع جزء يسير جدا من الهدر والفساد والترهل لصالح صندوق الطالب الفقير؟
بعيدا عن حسن اسميك الذي أراه أداة مكشوفة، أحذر كأردني ومتابع حثيث لما يجري في العالم ومن حولنا، إن أدوات الجيل الخامس من الحرب هي في قيد الاستعمال، ولا أخطر من الدعوات التي تأتي باسم التحديث والتي تعمل على تليين الجبهة الداخلية وتفكيكها وقطع حبلها السري مع النظام حتى تواجهه التحديات بجبهات مفككة وتابعة لهذا أو لذاك. فما يجري من مشاريع خطرة جدا هو تشييد بنى تحتية لتفكيك المجتمع، فعندما يكون الماء والغاز من إسرائيل، وعندما تكون الأخيرة هي من يهدد وجودنا الذي نعرف، وعندما تتنطح دول عربية مطبعة لتمويل مشاريع تعزز من اعتمادية وتبيعة الأردن، عندها يحق لنا أن نقلق ونقلق كثيرا، عندها علينا أن نعرف أن الحرب الخفية على كل منجزات المئوية الأولى تجري على قدم وساق. وهنا اسأل، ألم يكن بالإمكان لهذه الدول تمويل مشروع الأردن في بناء ناقل البحرين مثلا أو تمويل محطة تحلية مياه في العقبة؟! لماذا يربطونا بإسرائيل، ولما لا تحرك قوى سياسية "مدنية" على هامشيتها ساكنا حيال هذه المشاريع!