ألعاب الأطفال والهوية الوطنية
يُقال: إن ألعاب الأطفال في مجتمع ما تعكس طبيعة السياق الاجتماعي له وللأطفال الذين يعيشون فيه، كما تعكس قيمَه ونظرتَه للحياة.
ويُقال أيضًا: تعكس ألعاب الأطفال طبيعة المجتمع من حيث الفقرُ والغنى، وجغرافيته من حيث منطقة السكن، وطبقيته من حيث المستوى الثقافي والوعي العالمي.
ويُقال أيضًا: إن الانفتاح والعولمة أثّرت كل منهما بشكل كبير على غربة ألعاب الأطفال، بل وزاحمت الألعاب المحلية والتقليدية فيه.
ويُقال أيضًا: إن ألعاب الأطفال العالمية الغريبة عن المجتمع تحتاج إلى التكييف والمواءمة: لتكون أكثر قربًا من الأطفال، والأطفال أكثر قربًا منها.
ويُقال أيضًا: إن تفاصيل الهوية الوطنية، وألوانها ومضامينها تظهر بجلاء في مِرآة المجتمع، وألعاب أطفاله.
لا نعرف إلى أيّ مدى هذه الأقوال صحيحة كلها أو بعضها، لكننا نعرف أن الحوار حولها قد يكون صائبًا عندما نعدُّه مدخلًا في التنشئة السليمة، وتعظيم البُعد المحلي في الهويّة الوطنية، والانغلاق عليه. وقد يكون مدخلًا صائبًا أيضًا إذا قررنا أننا بحاجة إلى الانفتاح على العالم، وأننا لا نخشى على ثقافتنا المحلية القوية في نفوس أطفالنا من أن تتأثر بالانفتاح على العالم. وهذه المحاكمة العقلية تكشف لنا أهمية العمل على التوازن بين الهوية الوطنية، والبُعد العالمي الإنساني بذات الوقت الذي نقتنع به أن هذا يدعم ازدهار الذات والمجتمع معًا، ولا يؤثر سلبًا على مضامين الهويّة الوطنية مطلقًا.
معظمنا يعرف أن المعالم الرئيسة لشخصية الفرد في المجتمع تتكون، أو تكونت في فترة زمنية مبكّرة من عمره، وغالبًا ما يكون الطفل في ذروة الشغف بألعابه الفردية والجماعية، التي تقود كل لعبة منها الطفل نفسه، أو تلك التي هو فيها عضو في فريق. صحيح أن الطفل لا يسأل عن ألعابه: من الذي صنعها؟ وما الأهداف الخفية لها؟ وكيف تسربت للمجتمع؟ ولكنه يمارسها ويكتسب مهاراتها، ويتمثل قيمها التي قد تظهر آثار كل ذلك مستقبلًا في فكره وسلوكه.
وعلى سبيل المثال، فقد كان الكل يستمتع بالألعاب التي بدأت لدى أي فرد فيهم؛ وذلك من أجل قضاء وقت ممتع ومسلٍّ، وانتهت لديهم، أو لدى بعضهم بلعب القمار، واستمراء العنف، والتفنن بالكذب والخداع والتخفي، وإلّا بماذا نفسر العادات التي تتركها لعبة الشدّة، والصينية، والكيزة، والغمّاوة، والألعاب الرقمية. وهنا لا أريد أن أدخل بموضوع أنواع الألعاب، وهل هي محلية أم مستوردة؟ بل أريد أن أقول: ما الفرق بين هذا الموضوع، وقراءة القصة؟ ولماذا نسأل عن كاتب القصة ودار النشر، ونضع التعليمات لها بلزوم الموافقة على دخولها الدولة ومكتبة المدرسة، ونحذر من قراءة الأطفال لها؟ في حين تترك الألعاب دون رقابة ومتابعة!! مع العلم أن الرقابة والتحكم بأي مطبوعات، أو ألعاب باتت الآن ضربًا من الخيال.
وفي هذا المقام، يهمّني أن أوضح بأن الهوية الوطنية المكتسَبة بالضرورة تبدأ ملامحُها الرئيسة بالظهور والنموّ في الإطار الفكري للطفل في وقت مبكّر جدّا؛ لتصبح الموجّه الرئيس لسلوكه وأقواله وتعبيراته الجسدية. وهذا ما يزيد من قيمة هذه المرحلة العمرية وأهميتها في حياة كل فرد: مرحلة الطفولة المبكّرة، ومرحلة الاستمتاع بالألعاب مهما كان شكلها وقيمتها ومصدرها، عينيّة كانت أم رقمية، محليّة الصّنع أم عالمية.
وهنا نسأل: هل نقف لنناقش كل لعبة على حِدَةٍ، بحجة ماذا تترك من آثار على الطفل، وعلى درجة تمثله الهوية الوطنية ومستوى تأثرها سلبًا أو إيجابًا؟ أم نترك الأمور تسير بشكل طبيعي ونشتغل على الطفل، وكيفيات تحصينه أمام أي ملوثات ثقافية مهما كان شكلها ومصدرها ومكان التفاعل معها، مدرسة كانت أم مؤسسة ثقافية أخرى؟!
هذه هي الغاية الرئيسة من هذا المقال، نحن معنيون اليوم بأن ندير حوارًا جادّا، مفادُه أن العمل المكثف على تحصين الأطفال من أي ملوّثات، مهما كان شكلها ومصدرها دون بذل الجهد، والوقت مع ما لا يمكن ضبطه، أو مراقبته ومتابعته من أهم أولويات مسؤولياتنا، كون أن مفاهيم الضبط والرقابة تغيرت أمام العولمة، وتطورت وسائل الاتصال والتكنولوجيا.
إن مدخل الحياة الواقعية للأطفال هو الخيال والمبالغة، وسرعة الحركة وغيرها من هذه الخصائص التي تتماثل وتتقارب من الخصائص النمائية للأطفال في هذا العمر، وعلينا – نحن التربويين –أن نضع مناهجنا التربوية، وخططنا العملية، وألعابنا التربوية على أسسٍ من شأنها أن تبني شخصية الطفل المرنة التي تتحوط إزاءَ كل ما يخرج على خط المجتمع وسياقه الثقافي، وإزاءَ الحذر المطلوب بوصفه مدخلا للشك والتأمّل، والتحليل، والمحاكمة العقلية التي تقود إلى التعمق بالموضوع، واتخاذ موقفه منه، في ضوء تطلعات المجتمع المقبولة لديه.
ومن هنا، نبدأ بالتركيز على تعلّم مهارات التفكير واكتسابها وتجريبها في كل موقف حياتي نواجهه، إذ لا نريد أن نتعلم عن مهارات التفكير، ولا عن تاريخها، والجدل حولها، بل نريد اكتسابها وممارستها في الحياة. وأعرف أن النظام التربوي والتعليمي مطلوب منه أن يقتنع بذلك، ويقلل من أهمية الشهادات والعلامات، والاختبارات التي لسنا معنيين بها الآن، بقدر حاجتنا للمهارات، التي يلزم أن تكون هي الشروط والمتطلبات الأساسية لإشغال أيّ وظيفة أو عمل.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو:
ما حاجتنا في الجامعة لأنظمة وتعليمات تحرم الطلبة من أساتذة مبدعين، لهم تميزهم الفائق في أفضل جامعات العالم، فقط لأنهم حصلوا في البكالوريوس على درجة مقبول، مقابل أساتذة تقديرهم جيد في البكالوريوس، ويحملون شهادات بمرتبة الشرف ولا يستطيعون الوصول للطلبة، أو أن يكون لهم أي تميز، أو أثر خارج حفظهم معلومات تخصصيّة فقط؟ لهذا ولغيره، سيكون لنا لقاء في مقال قادم حول أهم قضية نحتاجها للنجاح، وهي التحول نحو التعليم النوعي، وتعليم التفكير بالشكل الحقيقي.