من حفتر إلى سيف الإسلام.. بصمات إسرائيل في ليبيا
على مدار عشر سنوات كاملة، تتصارع أطراف النزاع الليبي بضراوة فيما بينها للوصول إلى عرش القذافي الذي أطاحت به ثورة فبراير/شباط 2011، ومع غياب التوافق حول حلول سياسية لفترة طويلة، تحوَّلت ليبيا التي تمتلك أكبر احتياطي نفطي في أفريقيا إلى ساحة صراع إقليمي بالوكالة بين دول عدة، وبينما سعت شتى الأطراف المتصارعة ميدانيا إلى إحراز نصر سياسي أو عسكري، أتت الجولة الأخيرة من الصراع السياسي لتُلقي الضوء على حضور خافت لتل أبيب، بعد أن تعاقد كُلٌّ من "سيف الإسلام القذافي" (قبل إبطال ترشُّحه) و"خليفة حفتر" مع شركة إعلانات إسرائيلية كي تتولَّى حملتيْهما الانتخابيَّتيْن من أجل الرئاسة، وذلك بحسب ما كشفته صحيفة إسرائيلية، نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
لطالما نأت دولة الاحتلال الإسرائيلي بنفسها عن إظهار تدخُّلها علانية لصالح أحد الأطراف في الملف الليبي، بيد أن التطورات الأخيرة كشفت وضعا مغايرا، إذ كانت إسرائيل واحدة من الدول التي دعتها فرنسا لحضور مؤتمر باريس الأخير لمناقشة الأزمة الليبية، وهو حضور كاد يكتمل لولا تهديد الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" بالانسحاب من المؤتمر حال مشاركة إسرائيل. ورغم تأكيد رئيس الحكومة الليبية "عبد الحميد الدبيبة" لاحقا أن إسرائيل لم تكن مدعوَّة إلى المؤتمر، فإن ذلك لا ينفي حقيقة حضورها المتزايد في الشأن الليبي، في ظل عدم ممانعة بعض الشخصيات الفاعلة على الساحة في الانضمام إلى قطار التطبيع الإسرائيلي حال أتت بهم الانتخابات المُنتظَرة إلى السلطة.
ماذا تريدُ إسرائيل من ليبيا؟
منذ اندلعت ثورات الربيع العربي قبل عقد من الزمان، رأت إسرائيل في الحراك السياسي الجديد في المنطقة تهديدا مباشرا لمصالحها، خاصة بعدما أدَّى التغيير إلى سقوط أنظمة صديقة، وصعود أخرى باتت تُمثِّل خطرا إستراتيجيا على الاحتلال، وعلى رأسها الأنظمة المرتبطة بالإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين. وفي وقت وصل فيه الرئيس المصري الراحل محمد مرسي إلى رئاسة مصر، وتصدَّر فيه حزب النهضة التونسي المشهد السياسي في بلده منتزعا باكتساح أغلبية مقاعد المجلس التأسيسي، وحضر الإسلاميون بقوة في المشهد السياسي بنِسَب متفاوتة في عدة بلدان عربية أخرى مثل اليمن وليبيا والكويت، بات جليا الانحياز الإسرائيلي المتزايد لصفوف الثورات المضادة، سعيا منها لاستعادة معادلات وتفاهمات تل أبيب المعهودة مع الأنظمة القديمة، وإقصاء القوى الثورية والإسلامية المعادية لإسرائيل، رُغم ما أبدته بعض تلك الجماعات الإسلامية من مقاربة براغماتية تجاه العلاقات الرسمية لبلادها مع دولة الاحتلال.
في ليبيا تحديدا، بدا أن إسرائيل لا تكترث لتطورات الأحداث في بلد لا ينتمي إلى دول الطوق العربي المحيطة بالأراضي المحتلة، خاصة أن ليبيا طوال معظم عهد القذافي لم تكن صديقة لإسرائيل بأي وجه من الوجوه، في ظل موقف القذافي الراسخ برفض الاحتلال واستنكاره تطبيع القادة العرب مع إسرائيل، وأحيانا تمويله عمليات المقاومة الفلسطينية وإمدادها بالسلاح (باستثناء السنوات الأخيرة لحكم العقيد حيث ظهرت تسريبات تُشير إلى تواصلات سرية بين نظام القذافي ودولة الاحتلال في إطار جهود النظام لتحسين علاقاته مع الغرب). وإلى جانب موقفه العنيد تجاه القضية الفلسطينية، لعب القذافي دورا محوريا ضد إسرائيل بنفوذه المعتبر في القارة الأفريقية ومنعها من إقامة علاقات أمنية وعسكرية قوية في أفريقيا، لا سيما مع دول حوض النيل والقرن الأفريقي.
في ضوء هذه الخلفية، لم تشتبك إسرائيل علانية مع التطورات الليبية في البداية، لكن الأمور سرعان ما تغيرت بسبب الدور الحاسم الذي باتت تلعبه ليبيا في ملفات الطاقة في شرق المتوسط من جهة، ودور البلاد المحتمل بوصفها مصدرا لتمرير الأسلحة عبر مصر من ناحية أخرى، وهو ما جعل طرابلس نُقطة مهمة في خارطة المصالح الإسرائيلية، لا سيما بعدما نقلت الصحف الإسرائيلية مزاعم مفادها أن كميات من تلك الأسلحة وجدت طريقها إلى حركات المقاومة ضد الاحتلال.
انفاق غزة
لكن البُعد الأهم في قصة التقارب الأخير بين شخصيات ليبية بارزة وإسرائيل يمكن تفسيره في إطار مساعي تل أبيب لترسيخ نفوذها في محيطها العربي عبر توسيع دائرة البلدان والحكومات المُطبِّعة معها، خاصة بعد انضمام دول الإمارات والبحرين والمغرب والسودان إلى قطار التطبيع العام الماضي. وسوف يكون انضمام ليبيا إلى التطبيع مهما لإسرائيل بوجه خاص، حيث يمكن أن تلعب طرابلس دورا في دعم جهود دولة الاحتلال في كسب صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي من ناحية، كما أن ذلك يعني إيقاف مسيرة النفوذ التركي وإخراج القوات التركية الموجودة في ليبيا، التي تعرقل بوضوح التحالف الإسرائيلي-اليوناني-القبرصي، من ناحية أخرى.
علاوة على ذلك، تسعى إسرائيل إلى مد أنابيب غاز تحت سطح البحر جزءا من مشروع "إيست ميد" الهادف إلى نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا (عبر اليونان وإيطاليا بالأساس). ومن المُنتظَر أن يمر الخط عبر المنطقة البحرية بين تركيا وليبيا المُقرَّرة بموجب الاتفاقية الموقَّعة بين أنقرة والحكومة الليبية عام 2019، وهو ما يتطلَّب موافقة أنقرة التي يصعُب تصوُّر انتزاع تل أبيب لموافقتها حاليا بسبب الخلاف السياسي المتفاقم بين البلدين من ناحية، وبسبب ما يُمثِّله المشروع الإسرائيلي من تقويض لطموحات تركيا في التحوُّل إلى مركز طاقة إقليمي، كونه ينافسه بالأساس المشروع التركي المُسمى "ممر الغاز الجنوبي" لنقل 31 مليار متر مكعب من غاز أذربيجان إلى أوروبا من ناحية أخرى.
حفتر: من "السي آي إيه" إلى الموساد
بفرز الشخصيات الفاعلة على الساحة الليبية، يبرز اسم الجنرال النافذ خليفة حفتر بوصفه أبرز الشخصيات المرشحة لتحقيق الطموحات الإسرائيلية، سواء بسبب عدائه الواضح للقوى الثورية والإسلام السياسي، أو بفضل علاقاته الوثيقة مع الإمارات، التي باتت الصديق الأبرز لإسرائيل في العالم العربي. في ضوء ذلك، لم يكن مفاجئا إذن أن التقى مسؤولو المخابرات الإسرائيلية على انفراد في نوفمبر/تشرين الثاني الجاري بـ"صدَّام حفتر" نجل خليفة حفتر لمناقشة ترشُّح الأخير للرئاسة، في إشارة واضحة إلى دعم إسرائيل لمحاولة صعوده إلى رأس السلطة الليبية. وحسبما نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فإن صدام حفتر نقل إلى المسؤولين الإسرائيليين رسالة من والده يطلب فيها مساعدة عسكرية وسياسية من تل أبيب مقابل إقامة علاقة دبلوماسية بين ليبيا وإسرائيل في قادم الأيام، كما أشارت الصحيفة إلى أن اللقاء السري الأخير لم يكن سوى حلقة أخرى من سلسلة اتصالات سرية أجراها أمير الحرب الليبي بالفعل مع شخصيات من جهاز الموساد الإسرائيلي طيلة الأعوام السابقة.
لا يخفى على أحد وقوع إسرائيل في صف الدول التي تدعم حفتر منذ ظهوره على الساحة الليبية وإطلاقه معارك عسكرية أفلحت في السيطرة على الشرق الليبي الغني بالنفط لكنها عجزت عن انتزاع المركز السياسي والديمغرافي المُتمثِّل بالعاصمة طرابلس. وقد بدأ الدعم الإسرائيلي مُبكرا حين بات حفتر جزءا من المنظومة الإقليمية التي تسعى لعرقلة تصدُّر التيارات الإسلامية المشهد السياسي، بيد أن إسرائيل والجنرال الليبي حرصا على إبقاء العلاقة بينهما سرية تجنُّبا لإحراجه أمام الرأي العام العربي من جهة، ولعدم الإضرار بجيشه الذي ضم جنودا من التيار السلفي المتشدد من جهة أخرى.
يُعرف اليوم على نطاق واسع ما كان لحفتر من علاقات سابقة بجهاز الاستخبارات الأميركية (السي آي إيه) في عهد الرئيس الأميركي الأسبق "رونالد ريغان"، عندما أسَّس جبهة وطنية خلال سنوات بقائه في تشاد بهدف الانقلاب على القذافي. وبعد مرور سنوات طويلة وسقوط القذافي، وانتقال الولايات المتحدة إلى مربع دعم الثورة في ليبيا، عاد الرجل ولكن بحليف جديد مُتمثِّل في إسرائيل هذه المرة، التي قدَّمت له خدماتها عبر نصائح استخباراتية وعسكرية ضد حكومة الوفاق السابقة. وبحسب ما نشره موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، نقلا عن صحافي إسرائيلي، التقى مبعوثو الموساد في مناسبات عديدة بحفتر في القاهرة بين عامَيْ 2017-2019، وسهَّلوا تدريب بعض ضباطه الرئيسيِّين على تكتيكات الحرب وجمع المعلومات الاستخبارية والتحليل. وقد أكَّد تلك المعلومات ما ذكرته صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية حول وجود ضباط إسرائيليين في مناطق سيطرة الجيش الوطني الليبي أواخر عام 2019 لتدريب ميليشيات حفتر على حروب الشوارع.
قوات حفتر
بات التورُّط الإسرائيلي في الحرب الليبية أكثر إلحاحا بالنسبة إلى تل أبيب حين أعلنت تركيا دعمها غير المشروط لحكومة الوفاق في معركة طرابلس العام الماضي، فظهرت بعدها المقاتلات التركية حول تخوم العاصمة إلى جانب الطائرات المسيرة التي انتزعت من حفتر لأول مرة هيمنته على سماء المعركة، وقصفت خطوط إمداداته بدقة، وهي تطورات دفعت معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي إلى إصدار تحذير مفاده أن التحوُّلات التي تشهدها ليبيا لصالح أنقرة تُمثِّل تهديدا مباشرا للمصالح الإسرائيلية.
نُظِر إلى معركة طرابلس آنذاك بوصفها ستُحدِّد الحاكم القادم لليبيا، ولذلك لم يتخلَّ حلفاء حفتر عن دعمه رغم انكساراته العسكرية، وإن قدَّمت إسرائيل حينئذ دعما ضئيلا مقارنة بما قدَّمته روسيا والإمارات ومصر. ونتيجة لهذا الدعم، استطاعت قوات الجنرال الليبي إحراز بعض التقدُّم إضافة إلى إسقاط عدة طائرات مُسيَّرة تركية بفضل منظومات الدفاع الجوي التي مدَّت بها الإمارات قوات حفتر، التي صنعتها شركة إسرائيلية وصمَّمتها بالأساس لمواجهة الطائرات التركية المُسيَّرة.
أما الدور الأكبر الذي لعبته إسرائيل لصالح حفتر فظهر فيما كشفته وثائق وزارة العدل الأميركية عن تعاقد الجنرال الليبي مع مسؤول الموساد الإسرائيلي السابق "آري بن ميناشي" لشراء معدات لوجيستية وعسكرية، مع إبرام عقود أخرى هدفت لتحسين صورته وممارسة الضغط داخل الدوائر السياسية الأميركية، بما في ذلك الترويج لحفتر في أروقة الكونغرس الأميركي.
من اللافت للنظر حقا أن شبكة الحلفاء الإقليميين التي يعتمد عليها حفتر بما فيها شركات الاستشارات والضغط الإسرائيلية التي تتبع "موشيه كلوغهافت"، الذي يشغل منصب المستشار الإستراتيجي لرئيس الوزراء الإسرائيلي "نفتالي بينيت"، هي ذاتها التي تواصل معها سيف الإسلام القذافي من أجل دعمه في الفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو صيد آخر ظفرت به دولة الاحتلال ومنحها فرصة توزيع رهاناتها في الساحة الليبية على أكثر من طرف كي تُعزِّز فرص تحقيق أهدافها في الأخير. ورُغم ما يبدو لأول وهلة من صعوبة التواصل بين إسرائيل ونجل القذافي عدوها اللدود، فإن الرجل على ما يبدو يفصله بون شاسع عن والده فيما يتعلَّق بمواقفه الإقليمية، وهي فجوة ليست وليدة التطورات الأخيرة على ما يبدو.
فقد نشرت صحيفة "الأخبار" اللبنانية بعد أقل من شهر على اندلاع الثورة الليبية عام 2011 أن نجل القذافي زار تل أبيب لطلب المساعدة في إنقاذ النظام مقابل ضمانات لصالح الاحتلال الإسرائيلي، وهي المعلومات ذاتها التي نشرتها صحف إسرائيلية أكَّدت أن القذافي استعان قبل مقتله بأيام بإسرائيل للاستفادة من علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وفرنسا لعلها توقف حملة حلف شمال الأطلسي العسكرية التي استهدفت قواته بقرار من مجلس الأمن الدولي. بيد أن الفصل الأهم في القصة تكشفه صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، التي أكَّدت علاقات "سيف الإسلام" بإسرائيل مُمثِّلا عن نظام والده حتى قبل 2011، وامتلاكه اتصالات بشخصيات إسرائيلية منذ ذلك التوقيت، بل ومحاولته الترويج لفكرة أنه الطريق الوحيد لتحويل ليبيا من الاستبداد المُعادي للغرب إلى الليبرالية المُتحالفة معه دون زعزعة استقرار ليبيا.
واليوم، بينما يأمل الليبيون في أن تساهم الانتخابات القادمة في إنهاء الصراع المسلَّح الذي قسَّم البلاد نحو عقد من الزمان، تخشى الدول الفاعلة في الملف الليبي أن تسهم التغيرات في الإضرار بمصالحهم الاقتصادية في الرقعة الأغنى باحتياطات النفط في القارة. ولكن إلى جانب المطامع الاقتصادية، ثمة أهداف خاصة لإسرائيل تتمثَّل في وصول سُلطة مُنتخَبة مُتحالفة معها بهدف إكمال قطار التطبيع، وإغلاق سواحل ليبيا أمام طموحات تركيا في شرق المتوسط من جهة، وتأمين عدم وصول السلاح من أحد مصادره المهمة إلى غزة من جهة أخرى. بيد أن تلك الأهداف قد تلقَّت ضربة بإقصاء سيف الإسلام من السباق، ليظل حفتر -حتى اللحظة- الرهان الوحيد المتبقي للسياسة الإسرائيلية في ليبيا، في انتظار ما ستُسفر عنه تطورات الأيام والأسابيع المقبلة.
المصدر : الجزيرة